من المسلّمات البدهيّة في ديننا الحنيف أنّه لا يمكن لحقيقة علميّة أن تخالف نصّاً قطعيّاً من الوحي، وإن وقع ذلك التناقض فمردّه إلى أمرين:

إمّا أنّ النصّ غير صريح المعنى ” بمعنى أنّه ظنّيٌ في دلالته، أو أنّ ما يسمى حقيقة علميّة ما هي إلا مجرّد نظريّة مفترضة تفتقر إلى اليقين.

لكنّ ما يقع به بعض من يؤدلجون المعرفة من منطلق أسلمة العلم، هو إنزال الفرضيّات منزلة الحقائق المبرهنة، ثمّ جعل هذه الفرضيّات هي وجهة نظر الدين نفسه، بحيث من يسعى لنقض هذه الفرضيّات أو مناقشتها فهو يسعى لنقض الدِّين نفسه، وهكذا يؤدلج العلم مرّتين:

1- بجعل الفرضيّات حقائق نهائيّة لا تقبل النقض.

2-   ثمّ جعل هذه الفرضيّات هي رؤية الدِّين، يجب اعتقادها.

و بذلك  يتمّ حماية الفرضيّات  التي ينحازون إليها من النقض والمناقشة، باعتبار أنّ نقضها ومناقشتها هو نقض للمقرّرات الدينيّة نفسها.

وهنا أذكر قول الفيلسوف أبي يعرب المرزوقيّ:

“إنّ العلم هو بالأساس تعدّد الفرضيّات المفسّرة للظاهرة، وتعدّد الفرضيّات التفسيريّة للظاهرة يعني حرّيّة الباحثين في التصوّر، وافتراض فرضيّات مختلفة. فإذا وحّدنا الفرضيّات المفسّرة للظاهرة استحال على العلم التقدّم ”

ونحن اليوم نقع بين تطرّفين:

1- تطرّف من يفصل القرآن عن العلم، باعتباره كتاب غيب ودين، ليس له أيّ علاقة بالعلم، حتّى مجرّد علاقة التوجيه لمقاصد المعرفة.

2- وبين المفسّرين الذين يريدون استتباع نتائج البحث العلميّ للنصّ والوحي استتباع مطابقة، ليجعلوا من النتيجة التي يتحيّزون لها قضيّة منصوصاً عليها بالوحي، وهذا من شأنه أن يدخل العلم بالجمود والتوقّف، لأنّ تطوّر العلم دائماً مبني على تكذيب النظريّة، وليس الوثوق بها.

المشكلة دائماً تكمن في توظيف الظنون العلميّة من طرفي المؤمنين والملحدين على حدّ سواء، بين من يقول لك: الإله ثابت بالعلم الماديّ، وبين يقول: الإله منتفٍ بالعلم الماديّ.

مع العلم أنَّ دارون الذي كتب نظريّة التطوّر قال: إنّ نظريّته هذه لإنقاذ الإيمان، ولا تشكّل مستنداً لمن ينكرون وجود الإله.

هناك بعض من المسلمين بدافع الغيرة يريد أن يتورّط ورطة الكنيسة نفسها، عندما جعلت من الكتاب المقدس كتاب علوم، وصار للكنيسة مقرّرات خاصّة تتعلّق بالأرض وشكلها، والشمس ودورانها ومركز الكون ونشأة الإنسان.

بخاصّة المهووسون بجلب كلّ جديد ولو لم يكن مفيداً ولا دقيقاً، ولو كان لايزال في طور الفرضيّة الهشّة.

وهذه الورطة أوقعت الكهنة في العصور الوسطى في خيارين:

1- إمّا الاعتراف بأخطاء الكنيسة، واعتبار مقرّراتها خاطئة، وهذه ستؤدّي للحطّ من قيمية الكنيسة التي تدّعي لنفسها الوثوقيّة والعصمة والتبليغ عن الإله.

2- أو تكفير كلّ صاحب نظريّة علميّة تخالف مقرّرات الكنيسة، لحدّ فتح محاكم التفتيش وملاحقة أصحاب البحث العلمي ومحاسبتهم، لأنّهم يخالفون بأبحاثهم ما تقرّره الكنيسة، ويدعون إلى الهرطقة والتجديف.

مع الأسف ثمّة أصوات إسلاميّة اليوم تتّجه إلى الورطة التي وقعت فيها الكنيسة نفسها من قبل، من خلال جعلهم القرآن الكريم -وهو كتاب هداية أصلاً- كتاباً في علم الفلك والفيزياء والبيولوجيا والأحياء.

ثمّ تجعل من تفسيرها العلميّ مقرّرات قطعيّة قد تكفّر كلّ من يخالفها، باعتباره يقرّر حقيقة علميّة تخالف النصّ القطعي.

وغالباً ما يتحوّل كلام بعض من يُقحمون أنفسهم في هذه اللجّة الخطيرة بدون مكنة معرفيّة من العلوم الماديّة، إلى مادّة للسخريّة من الملحدين والمنكرين، فيعطون مقتلاً ومطعناً للمتشكّكين من حيث يظنّون أنّهم ينصرون الدِّين.

ولا شكّ أنّ في القرآن نوعاً من العلاقة مع العلم والمعرفة:

* من ضبط مقاصد العلم في تحقيق سعادة الإنسان، والتعرّف على أسرار خلق الله تعالى في الكائنات.

* ثمّ في توجيه استعمال نتائج المعرفة بسياج من الأخلاق الضابطة والعاصمة من تسخير مخرجات الاكتشاف والعلم في ممارسة الفساد والإجرام.

* ثمّ بالدعوة وإيقاظ الباعث والفضول إلى إعمال النظر والفكر في الكون والملكوت والتدبّر في المخلوقات.

لكنّها في ذلك كلّه تفتح طريقاً للبحث والاكتشاف ولا تعطي غالباً مقرّرات مسبقة، وإنّما تترك المجال والزمام لعقل المتدبّر لكي يصل بعقله واجتهاده لاكتشاف نواميس الله تعالى في خلقه، وتسخير هذه النواميس في أداء المهمّة والغاية من خلق الإنسان على هذه الأرض من القيام بأعباء الاستخلاف وعمارة الأرض.

إنّ التفسير العلميّ للقرآن الكريم بناء على التعسّف في تحميل دلالات النصوص ما لا تحتمل، أو بناء على تركيب المعنى على نظريّة علميّة لم تثبت، ولم ينته البحث فيها، سيضطرّ هؤلاء للتغيير في اجتهاداتهم، وتفسيراتهم كلّما تقدّم العلم وسينقضون من تفسيراتهم كلّما انتقضت النظريّة التي يتوكؤون عليها، وهذا باب خطير غالباً ما يستغلّ لتشكيك الشباب بمصدر هدايتهم، بناء على مخادعة المزج بين تناقض النصّ وتناقض المفسّرين.