أولا ـ معنى العبادة وشروط قبولها
أ ـ معنى العبادة:
مدارُ العبادةِ في اللغة والشرع على التذلّلِ والخضوعِ والانقيادِ. والعبادةُ في اللغة من الذلة، يقال: طريقٌ معبّدٌ، وبعيرٌ معبَّد، أي: مذّلل. وفي الشرع عبارةٌ عمّا يجمعُ كمالَ المحبّةِ، والخضوعِ، والخوفِ.
والعبادة في تعريفها الشامل هي: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمالِ الباطنةِ والظاهرةِ، فالصلاةُ، والزكاةُ، والصيامُ، والحج، وصدقُ الحديث، وأداءُ الأمانة، وبرُّ الوالدين، وصلةُ الأرحام، والوفاءُ بالعهود، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر، وجهادُ الكفّارِ والمنافقينِ، والإحسانُ إلى الجار واليتيمِ والمسكينِ وابنِ السبيل والمملوكِ من الآدميين والبهائمِ، والدعاءِ، والذكرِ، وقراءةِ القرآن الكريم، وأمثال ذلك هي من العبادة.
وكذلك حبُّ اللهِ ورسوله ﷺ، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاصُ الدين له، والصبرُ لحكمه، والشكرُ لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكلُ عليه، والرجاءُ لرحمته، والخوفُ من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله.
وذلك أنَّ العبادةَ هي الغايةُ المحبوبةُ له، والمرضيةُ له، التي خَلقَ الخلقَ لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذاريات :56] وبها أرسل جميع الرسل. والعبادةُ تتضمّنُ كمالَ الحُبِّ ونهايته، وكمالَ الذُّلِّ ونهايته، فالمحبوبُ الذي لا يعظَّمُ، ولا يُذَلُّ له، لا يكون معبوداً، والمعظَّم الذي لا يُحَبُّ لا يكون معبوداً.
ب ـ شروط قبول العبادة:
الشرط الأول ـ الإخلاص
وهذا الشرطُ متعلِّقٌ بالإرادةِ والقصدِ والنيّة، والمقصود به إفرادُ الحقِّ سبحانه وتعالى بالقصد والطاعة. والنيةُ تقع في كلام العلماء بمعنيين:
أحدهما: تمييزُ العبادات بعضِها عن بعضٍ، كتمييز صلاةِ الظهرِ عن صلاة العصر مثلاً..إلى أنْ قال: والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعملِ: هل هو لله وحده لا شريك له، أم لله وغيره؟ وهذه النيةُ هي التي يتكلّم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه.
والأدلةُ على هذا الأصل في القرآن والسنة وكلام علماءِ الأمة ومن سارَ على نهجهم كثيرةٌ، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ *} [الزمر :2 ـ 3] أي لا يقبلُ الله من العملِ إلا ما أخلصَ فيه العاملُ للهِ وحده، لا شريك له.
وقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ *} [الأعراف :29].
ومن الأحاديث النبوية قوله ﷺ: «إنمّا الأعمالُ بالنيّاتِ، وإنمّا لكلِّ امرىءٍ ما نوى، فمن كانتْ هجرتهُ إلى اللهِ ورسولِهِ، فهجرتُه إلى اللهِ ورسولهِ، ومَنْ كانتْ هجرتُه لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه».
وفي حديث أبي هريرة قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقولُ: “إنَّ أوَّل الناسِ يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد، فأتي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنّكَ قاتلتَ لأن يقال جريءُ فقد قيل. ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجلُ تعلّمَ العلمَ، وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرّفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلّمتُ العلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيكَ القرآن، قال: كذبتَ، ولكنّك تعلّمتَ العلمَ ليقالَ: عالمٌ، وقرأتَ القرآن ليقالَ: هو قارئ، فقد قيل. ثم أُمِرَ به، فسُحِبَ على وجهه، حتى أُلقي في النار. ورجلٌ وسّعَ الله عليه، وأعطاه من أصنافِ المالِ كله، فأُتي به، فعرّفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِنْ سبيلٍ تحبُّ أن ينفقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنّك فعلتَ ليقالَ: هو جوادٌ، وقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه، حتى ألقي في النار”.
الشرط الثاني – الموافقة للشرع
وأما الأدلة من القرآن فكثيرة منها: قوله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنسَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} [الانعام :153] وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء :125].
أما الأدلة بين السنة النبوية فكثيرة منها: وقوله ﷺ: «تركتُ فيكم أمرينِ لن تضلّوا ما تمسّكتُم بهما، كتابَ الله وسنّةَ رسولهِ».
وقوله ﷺ: «مَنْ أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ مِنْهُ فهو رَدٌّ».
وقال رسول الله ﷺ: «لقد تركتُكم على مِثْلِ البيضاءِ، ليلِها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلاّ هالكٌ».
وعن مطرّف بن عبد الله يقول: سمعتُ مالكَ بنَ أنسٍ إذا ذُكِرَ عنده الزائغين في الدين يقول: قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: سَنَّ رسولُ اللهِ ﷺ وولاةُ الأمر بعدَه سُنناً، الأخذُ بها اتّباعٌ لكتابِ اللهِ عزّ وجلّ، واستكمالٌ لطاعةِ اللهِ عزّ وجلّ، وقوةٌ على دينِ الله تبارك وتعالى، ليسَ لأحدٍ مِنَ الخَلْقِ تغييرُها ولا تبديلُها، ولا النظرُ في شيءٍ خلافها، مَنِ اهتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصرَ بها فهو منصورٌ، ومن تركَها واتّبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنين ولاّه اللهُ تعالى ما تولَّى، وأصلاه جهنّم، وساءت مصيراً.
ومما روي عن الفُضيل بن عياض أنّه تلا قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك :2] فقال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العملُ خالصاً ولم يكن صواباً، لم يُقْبَلْ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقْبَلْ، حتى يكونَ خالصاً صواباً، والخالصُ إذا كان لله عزّ وجلّ، والصوابُ إذا كان على السنّة.
وبعد ذكر شَرْطَي العبادةِ المقبولةِ عند الله سبحانه وتعالى يتبيّنُ أنَّ دينَ الإسلام مبنيٌّ على أصلين:
الأصل الأول: أن نعبد الله وحده لا شريك له.
والأصل الثاني: أن نعبده بما شرع من الدين، وهو ما أمرت به الرسل. إنّ الغاية من خلق الإنسانِ وكتابةِ الموتِ والحياةِ عليه واضحٌ في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك :2] والأحسنُ عملاً يتضمّن أمرين: كما فسر ذلك الفضيل بن عياض ـ رحمه الله-: عندما قال: أحسنه أي: أخلصَه وأصوبَه.
فأخلصه: هو «لا إله إلا الله»، وأصوبه: هو «محمد رسول الله»، وهو الذي أشارت إليه سورةُ الفاتحة ـ أم القرآن الكريم ـ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفاتحة :6 ـ 7].
والذين أنعمَ اللهُ عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم الرسول الكريم ﷺ وصحابته ـرضوان الله عليهم ـ والذين ساروا على هذا الصِّرَاطَ المُستَقِيم أي: الصوابِ الموصلِ للغاية، وهذا الطريقُ وسطٌ بين طرفين.
ثانيا ـ حقيقة العبادة
إنّ دائرةَ العبادةَ التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة، ومهمته في الأرض دائرةٌ رحبةٌ واسعةٌ، إنها تشمل شؤون الإنسان كلها، وتستوعبُ حياته جميعاً، وتستغرقُ مناشطه، وأعماله كافة، ومن التعريف السابق للعبادة عندما ذكرنا بأنّه: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ـ لا يمكنُ أن يخرجَ شيءٌ من نشاطات الإنسان وأعماله، سواء أكان ذلك في العباداتِ المحضة، أو في المعاملاتِ المشروعة، أو في العاداتِ التي طُبِعَ الإنسانُ على فعلها من دائرة العبادة.
وهنا ينبغي لنا الإشارةُ إلى أنَّ الأصلَ في العباداتِ المحضةِ المنعُ، حتى يردَ ما يدلُّ على مشروعيتها، وأنّ الأصلَ في العاداتِ العفوُ، حتى يردَ ما يدلُّ على منعها، وذلك مبني على أنّ تصرّفـات العباد من الأقـوال والأفعـال نوعـان: عباداتٌ يَصْلُـحُ بهـا دينـه، وعاداتٌ يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصولِ الشريعة نعلمُ أنَّ العباداتِ التي أوجبها الله أو أحبَّها لا يثبتُ الأمرُ بها إلاّ بالشرع وحده.
وأمّا العاداتُ: فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصلُ فيها عدم الحظر، فلا يحظر منها إلاّ ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأنّ الأمرَ والنهيَ هنا شرعُ الله.
والعبادةُ لا بدَّ أن يكونَ مأموراً بها، فما لم يثبتْ من العباداتِ أنّه مأمور به، كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟ وما لم يثبت من العبادات أنّه منهيٌّ عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟ والعادات الأصلُ فيها العفوُ، ولا يُحْظرُ منها إلاّ ما حرّم الله.
وهذا التقسيم في الحظر والإباحة لا يخرِجُ شيئاً من أفعال الإنسان العادية من دائرةِ العبادةِ لله، ولكنّ ذلك يختلِفُ في درجته ما بينَ عبادةٍ محضةٍ، وعادةٍ مَشُوْبَةٍ بالعبادة، وعادةٍ تتحوَّل بالنيةِ والقصدِ إلى عبادةٍ، لأنَّ المباحاتِ يؤجَرُ عليها بالنيّةِ والقصدِ الحسنِ، إذا صارت وسائلَ للمقاصد الواجبة، أو المندوبة، أو تكميلاً لشيءٍ منها.
قال النووي في شرحه لحديث «وفي بِضعِ أحَدِكُم صدقةٌ»: وفي هذا دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تصيرُ طاعاتٍ بالنّيةِ الصادقة. ومن ذلك يتّضح: أنَّ الدِّينَ كلَّه داخلٌ في العبادةِ، والدَّينُ منهجُ الله، جاءَ ليسعَ الحياةَ كلَّها، وينظِّمَ جميعَ أمورِها من أدبِ الأكلِ والشربِ وقضاءِ الحاجةِ إلى بناءِ الدولةِ، وسياسةِ المالِ، وشؤونِ المعاملاتِ والعقوباتِ، وأصولِ العلاقاتِ الدوليةِ في السلم والحرب.
إنَّ الشعائرَ التعبّدية من صلاةٍ، وصومٍ، وزكاةٍ، لها أهميتُها ومكانتُها، ولكنَّها ليست العبادةَ كلَّها، بل هي جزءٌ من العبادةِ التي يريدُها الله تعالى. إنّ مقتضى العبادةِ المطالبِ بها الإنسانُ أن يجعل المسلمُ أقوالَه وأفعالَه وتصرفاتهِ وسلوكَه وعلاقاتِه مع الناس وفقَ المناهج والأوضاعِ التي جاءتْ بها الشريعةُ الإسلاميةُ، يفعلُ ذلك طاعةً لله، واستسلاماً لأمره.
والدليل على المفهومِ الشاملِ للعبادةِ الكتابُ والسنةُ وفعلُ الصحابةِ رضوان الله عليهم. فأمّا القرآن الكريمُ فقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *} [الانعام :162 ـ 163].
وأمّا السنةُ: فقوله ﷺ: «إنّ المسلمَ إذا أنفقَ على أهلِهِ نفقةً، وهو يَحْتَسِبُها كانتْ له صدقةً». وقوله ﷺ: «دخلتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ ربطْتَها، فلم تُطْعِمْهَا، ولم تَدَعْهَا تأكلُ مِنْ خِشَاشِ الأرضِ حتّى ماتت».
وأما الاستدلال على عموم العبادة وشمولها لحياة الإنسان بفعل الصحابة ففي قصة بعثِ أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، وفي آخره قال أبو موسى لمعاذٍ: فكيفَ تقرأُ أنتَ يا معاذ؟ قال: أنامُ أوَّل الليل فأقومُ، وقد قضيتُ جزئي من النوم، فأقرأُ ما كَتَبَ اللهُ لي، فَأَحْتَسِبْ نومتي، كما أَحْتَسِبُ قومتي، وفي كلام معاذ رضي الله عنه دليلٌ على أنّ المباحاتِ يؤجَرُ عليها بالقصدِ والنيّةِ
مراجع البحث:
1) علي محمّد محمّد الصّلابيّ، الإيمان بالله جلّ جلاله، دار المعرفة، بيروت. لبنان، ط 1، 1432هـ – 2011م، ص (112-118).
2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودية – مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، السعودية، 1425هـ – 2004م، (29 / 116، 117).
3) جابر إدريس علي أمير، منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل، سلسلة الرسائل العلمية (7)، جامعة المدينة المنورة، السعودية، 1419هـ – 1998 م، (2 / 89)..
4) الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد، معالم التنزيل (تفسير البغوي)، تحقيق محمد عبد الله النمر وآخرون، دار طيبة، الرياض، السعودية 1409هـ – 1989م (4 / 269).