ليست لأمة من الأمم، وسيلة التقاء متكرر طوال العام بين علمائها وأفرادها، كما عند الأمة المسلمة والمتمثلة في خطب الجمعة، التي يربو عددها على خمسين مرة أو خطبة في العام الواحد، ما يدعو إلى أهمية وضرورة استثمار هذه الوسيلة بالشكل الذي يعود على الأمة بالخير والفلاح والصلاح، لكن هل واقع العالم الإسلامي وبشكل عام، يتوافق مع هذا الحديث النظري؟ وإن توافق، فلماذا لا تستثمر الأمة في هذه الوسيلة الدعوية الإصلاحية غير المكلفة، في وقت يبذل آخرون الغالي والنفيس لأجل خلق وسائل تواصل مستمر بين مفكريها وعلمائها وبين شعوبهم، دون كثير جدوى؟ الأمر فعلاً يحتاج إلى عميق تأمل ثم بحث ودراسة.

يمكن بادئ ذي بدء القول والتصريح الواضح الكاشف، أن خطب الجمعة في غالبية البلاد الإسلامية من إندونيسيا إلى موريتانيا، أشبه بثروة مهدرة، سواء كان الهدر متعمداً أم نتاج حسن نية ليس في موضعه الصحيح، فليست كل نية سليمة تؤدي إلى عمل مقبول في الشرع – كما هو معلوم – إذ لكي يكون العمل مقبولاً، لابد أن يتوفر على شرطين أساسين: نية صحيحة أو ما نسميه بالإخلاص، ثم عمل صحيح متوافق مع الشرع. وغياب أحدهما يجعل العمل ناقصاً غير مقبول.

حتى لا نغرق في كثير عموميات..

خطب الجمعة غير مستفاد من غالبيتها. إنها ثروة مهدرة كما أسلفنا، ويتمثل الهدر في عدم استثمار الحضور الأسبوعي لكل فئات المجتمع إلى الخطبة. ذاك الحضور الكبير الذي يأتي دون توجيه دعوات وإعلانات صحف وتلفزيون وغيرها، ودون صرف درهم ولا دينار في الترغيب والتشويق، بل تجد الجميع يسرع الخطى مبكرين، ملبين دعوة ربهم لهذه العبادة أولاً، وعلى أمل أن يخرج الحضور ثانياً – بالإضافة إلى الأجر الأخروي – بفائدة تعينهم في دنياهم على إصلاح أنفسهم أو تعديل أوضاعهم أو سلوكياتهم أو أفكارهم.. لكن أن تخرج غالبية الحضور وهم كما جاءوا، فهذا هدر غير مبرر.

ذكر الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – وكان من الخطباء المبدعين أصحاب الموعظة والحكمة الحسنة، أن وفداً من العلماء زار واحداً من كبار أولي الأمر، يشكو إليه فساد الأخلاق، وانتشار المعاصي، فقال لهم:” أنا أعجب من أمركم؛ عندكم هذه المنابر التي تستطيعون أن تصلحوا بها كل فاسد، وتقوّموا كلَّ معوجٍّ، ثم تَشْكون إليَّ ما تجدون!.

وهي كلمة أجراها الله على لسانه – والحديث للشيخ الطنطاوي – لتقوم بها الحجة علينا مرتين: مرة لأنها كلمة حق لا ينازع في صحتها منازع، ومرة لأنها جاءت موعظة منه هو لمن يتصدُّون لوعظ الناس! ولو كان عُشْر هذه المنابر في أيدي جماعة من الجماعات العاملة المنظمة؛ لصنعت بها العجائب؛ فما بالنا وهي في أيدينا لا نصنع بها شيئًا؟

أين الخلل؟

إن ثروة هائلة مهدرة كخطب الجمعة، يحضرها ملايين المسلمين كل أسبوع، دون أن تجد لها أثراً فاعلاً في السلوك والأخلاق والأفعال وغيرها، هي بلا شك مؤشر على وجود خلل ما في زاوية من زوايا هذا الأمر يستدعي التوقف عنده وبحثه.

إن كان السبب في الخطيب، سواء لضعف في حجته أو علمه أو كفاءته الخطابية والدعوية، فلماذا يتم تكليفه أساساً وهو غير مؤهل لاعتلاء منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ أما إن قيل ومن باب الضرورات تبيح المحظورات – إن صح التعبير – وأن قلة عدد الخطباء مقارنة بعدد الجوامع، هي التي تدفع الجهات الرسمية لاستعمال من هم دون المستوى لأجل أداء هذه المهمة إلى حين توفر المؤهلين، فهذا عذر واهٍ غير مقبول، في زمن العلم وإعداد أو صناعة الخطباء والمتحدثين، في العالم الواسع للتدريب على الخطابة وأسسها وفنونها ومهاراتها.

الأمة بحاجة فعلية للخطيب الداعية والخطيب المصلح والخطيب الذي يعيش واقعه وعصره. يفهم أحوال مجتمعه ومشاكله وهمومه. هذا النوع من الخطباء أصبح عملة نادرة، حتى صار العض عليه بالنواجذ وعدم التفريط به، هو الحكمة ذاتها، بل عين الصواب كما تقول العامة.

واقع الخطباء المصلحين اليوم

ما يحدث في كثير من الأنحاء في العالم الإسلامي وللأسف الشديد، سواء كان متعمداً نتيجة سياسات معينة أو سوء إدارة وتوجيه، هو تضييق الخناق على من هم أهل للوقوف على منابر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدعون كما كان يدعو عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام. يأخذون بالألباب والأفئدة، من شدة وجمال وحُسن إلقائهم وواقعية موضوعاتهم وسهولة منطقهم، حتى ترى الحضور وقد خرج بعد الإنصات الواعي، وقد تأثرت مسامعهم بما كان في الخطبة، وعند غالبيتهم نية نشر ما استمعوا إليه من باب توسيع رقعة الخير والإصلاح.

هكذا نوعية من الخطباء لا تستمر غالباً وللأسف، إذ هم أشبه بسحب مطيرة تنزل خيراتها زمناً قصيراً ما تلبث أن تتحرك سريعاً وتختفي، من بعد أن تكون قد تعرضت لمضايقات وتحرشات من هذا وذاك، فيكون الخطيب منهم أمام طريقين لا ثالث لهما، إما التصادم مع الجهات الرسمية، مع ما سينتج جراء ذلك من صداع وهدر للجهود والطاقات، أو الانزواء والانشغال بوسائل دعوية إصلاحية أخرى، فتكون بالتالي منابر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمن ليسوا أهلاً لها – للأسباب التي ذكرناها آنفاً – أو تكون لخطباء رسميين موجَّهين، من النوعية التي تسبح بحمد الزعيم وتدور في فلكه، أصحاب الخطب البلاغية غير المستوعبة، أو أصحاب الخطب المكررة التي حفظها الحضور عن ظهر قلب، دون منهج واضح يسير عليه الخطيب، أو الجهة التي تشرف على الخطب.

 

فمن يتحمل إثم هذا الهدر؟ سؤال يبحث عن إجابة..