ليس من شروط تكوين المكتبة الشخصية أن تكون في غرفة مستقلة يدور رأسك حين تدلف إليها من زحمة الكتب التي تحيط بجدران المكتبة الأربعة.

المكتبة الشخصية في تعريفي: كتبٌ يقتنيها شخصٌ، ويحوزها في حيز خاص بها.

وقد يكون مبتدأ أمر المكتبةِ جزءاً من خزانة الملابس في البداية، أو تحت الوسادة، أو في صندوق من الكرتون، ثم يفتح الله وتتمدد المكتبة، وتزداد الكتب حتى يحتاج صاحبها إلى اقتناء خزانة مخصوصة للكتب.

 التكوين : لا أعرف -بالضبط- متى تكونت مكتبتي الشخصية! ذلك بأن منزلنا كان يضم مكتبة صغيرة جداً، لا أظن مجموع كتبها يتجاوز ثلاثين عنواناً، ولا أستطيع حتى الآن تذكر اللحظة التي صارت لي فيها مكتبةٌ خالصة لي من دون أفراد أسرتي، وهذا طبيعي، لأن المكتبة تبدأ بكتاب واحد كما تبدأ الغابة بشجرة، “وأول الغيث قطرٌ.. ثم ينهمرُ” كما يزعم ابن النبيه.

لا أستطيع أن أتذكر: ما هو أول عنوانٍ اقتنيتُه في حياتي، هل كان “متن القصيدة النونية” لابن القيّم، أم كان “البداية والنهاية” لابن كثير؟! لا أدري. لا أود أن أحتسب ضمن مقتنيات مكتبتي كتيب “حصن المسلم” ولا “الأربعين النووية” ولا “كتاب التوحيد” ولا “البيقونية” وهي المتون التي كنت أحفظ منها في الإجازات الصيفية، فقد كانت تلك النسخ تضيع بعد اقتنائها بأيام أو أسابيع، أو تتمزق، أو تُسرق، أو تذهب في مشوار ثم لا تعود.

“متن القصيدة النونية” كان جزءاً من جائزةٍ نلتُها في مسابقة قرآنية، وكانت من أطول ما رأيت من المنظومات، و”البداية والنهاية” كان كتاباً اقتنيتُه بجدارة، فقد رأيته في مكتبة بيت خالتي، ورغبت أن أقتنيه، فجلبه لي ابن خالتي، جزاه الله خيراً، وأظن أن ثمنه كان مئة وأربعين ريالاً . كان ذلك قبل ثلاث وعشرين سنة من الآن، في صيف عام ١٤١٧ للهجرة – 1997 ميلادي – ولأن “أول الغيث قطرٌ ثم ينهمر” فقد انهمرت الكتب فيما بعد، ونمت من خلال الهدايا، والشراء، ووجدتني مضطراً ذات يوم إلى خزانة كتب، اشتراها لي والدي رحمه الله، كانت خزانة حديدية، وكانت فيها مساحاتٌ فارغةٌ سرعان ما امتلأت كتباً.

 

مكتبة أم مستودع؟

يقول الرجل المكتبة ألبرتو مانغويل: “في أي مكتبة: ليس هناك رفوف فارغة تبقى رفوفاً فارغة لوقت طويل، مثل الطبيعة: المكتبات تمقت الفراغ بشدة. كان ذلك اكتشافاً طريفاً لمانغويل، ولكنه اكتشاف يتعين على كل صاحب مكتبةٍ شخصية أن يختبره بنفسه.

كانت القراءةُ وسيلة ترفيه محببة إلى قلبي، وشيئاً أسكن إليه، وكنتُ أقرأ ما يجذبني، وأقتني من الكتب ما تنجذب نفسي إلى عنوانه، وكنتُ -على قلة ذات اليد- سريعاً إلى الاقتناء، أشتري الكتاب الذي قد لا يعجبني مضمونه قبل أن أتروى، وأشعر بعد العودة إلى الدار والشروع في القراءة بشيء من خيبة الأمل، أقول لنفسي: لا بأس، وأضم الكتاب إلى المكتبة!

وهذا يقودني إلى حديث عن وظيفةٍ من أقبح وظائف “المكتبة”، هي وظيفة “مستودع الكتب، حين يعتاد المرء الاحتفاظ بالكتب التي يغلب على الظن أنها لن تُقرأ ثانيةً!

المكتبةُ كائن متجدد متحرك، ما دام صاحبها متجدداً متحركاً، ينمو تفكيره، وتنفتح في رأسه بين الحين والحين ثغرات يسدها بأصناف مختلفة من الكتب التي تلائم حاله تلك، ومن الطبيعي في أيما عملية عضوية كهذه: أن تتخلف عناوين لا تعود تشبه النسخة الحالية من صاحب المكتبة، لا تجذب انتباهه، مثل قطع ملابس ضاقت بصاحبها أو فاض عنها جسد لابسها، بدافع السمنة أو بفضل النمو الطبيعي، ومن العبث -إلا لمن يود تكوين متحف ملابس- أن يحتفظ المرء بكل ملابسه القديمة، كما أن من العبث أن يحتفظ المرء بكل كتبه القديمة التي تثقل المكتبة ولا تنفع صاحبها، فيكون حال الكتاب المهمل في المكتبة حال القطة التي حبستها تلك المرأة حتى ماتت: لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وكذا حال من يجعل مكتبته مستودعاً: لا هو أفاد من الكتاب، ولا هو مرره لمن ينتفع به، ولا هو جعله وقوداً للنار!!

ثمة كتبٌ تشبه المناديل الورقية، هي للاستعمال مرة واحدة وحسب، وكتبٌ ترد القارئ على هيئة هدايا تناسب ذوق مهديها أكثر من ذوق المهدى إليه، أو يكتشف بعد فوات الأوان أن اقتناءه لها كان حماقة، أو ينصرف ذهنه واهتمامه عن العنوان أو الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه العنوان، والسؤال هو: لماذا تظل هذه الكتب الفائضة عن الحاجة في مكتباتنا يا ترى؟! إنها زوائد دهنية في بدن الدار، تُثقل المكتبة ولا تنفعها، وتنفخها كما ينتفخ بطن الطفل المصاب بداء سوء التغذية، والمتعجل يظنه انتفاخ بِطنة وتخمة.

لحظةُ الحقيقة

بعد مغادرتي المرحلة الجامعية، وفي لحظة وعي نادرة، ألقيت نظرة ناقدة على مكتبتي، وراعني أنها كانت مكتبةً رخوة، يصعب تصنيف محتوياتها، فقد كانت مكتبة “حاطب ليل”، فيها نثار من كتب لا يربطها رابط، وكنت أتخيل ما صنعت تلك الكتب في دماغي، فأتصور فوضى عارمة، وكانت مصيبة هوّن من وقعها وجود ثلاثة عناقيد من الاهتمامات داخل مكتبتي: عنقود علوم القرآن والقراءات (كتب التجويد، وشروح الشاطبية والدرة، ومتون أخرى وشروحها)، وعنقود الأدب (عدة دوواين، وكثير من كتب الطنطاوي، وبضع روايات من أدب السجون، وبضع عشرة رواية جريمة)، وعنقود الكتب الوعظية، (من رسالة المسترشدين، مرورا بالوابل الصيب وليس انتهاء بكتب خالد أبو شادي). قلت لنفسي: على الأقل، هناك اهتمامات مركزية، والأمرُ إذن ليس رخاوة خالصة، ومضت بضع سنوات، ثم اكتشفت اكتشافاً خيل إليّ أنه مزلزل، أو كان مزلزلاً في حالتي على الأقل!

شكوت ميلي الدائم إلى الموسوعية، وركضي وراء سراب الإحاطة بأبواب كثيرة من أبواب المعرفة، وقررت أن أقصر جهدي وعنايتي على باب واحد من أبواب العلم، وأن أسلّم بجهلي في الباقي، ما عدا تلك المطالعة التي أنوي بها تذكير نفسي بأن العالم أوسع بكثير من باب اهتمامي، وأن للحقيقة وجوهاً أخرى غير وجه تخصصي!

وهكذا تخلصت من فوضى حياتي، عبر التخلص من فوضى مكتبتي، فعهدت بعامة كتبي إلى دار للكتاب المستعمل، ولم يبق في مكتبتي إلا القليل القليل من الكتب، وهي تلك التي تتصل بشأن القراءة والكتابة.

 

القرار الذي غيّر كل شيء

خلت خزائن كتبي، وصفا ذهني مدةً، إذ حصرتُ نفسي في باب من أبواب المعرفة، وهو بابٌ شديد الضيق وشديد السعة في آن، وصارت مكتبتي صغيرة، متخصصة، عامةُ ما فيها من العناوين: سيرٌ ذاتية، وكتبٌ عن الكتابة.

ولقد وجدتُني أقرأ بارتياح وتركيز عجيبين، وأقبل على القراءة بروح وثابةٍ وغير عجِلة، وأقرأ قراءة الدارس الفاحص لا قراءة من همّه بلوغ الصفحة الأخيرة، معي قلم وملصقاتٌ أضعها على الصفحات، وملحوظات في طرة كل كتاب، وملف مفتوح في الحاسوب أسطر فيه فكرة مشروع أو مسودة مقال أو مراجع مطلوبة أو نحو ذلك.

وجاء معرض الكتاب، فوجدتني أتعامل معه كما لم أفعل من قبل: إذ زرت المعرض مرتين: المرة الأولى للمرور بأجنحة دور النشر التي أعرف اهتمامها بحقل اهتمامي، وأخذ قوائم العناوين منها، ثم عدت إلى داري وعكفت أياماً قليلة على ما جمعت من قوائم الكتب واخترت قائمة من العناوين، ثم كررت على المعرض ذات صباح والمعرض شبه خال من الزوار، واشتريت الكتب التي وقع عليها اختياري من قبل، وكانت عشرات من الكتب، أقفر بسببها جيبي من النقود، وإن أخصبت خزانة كتبي وامتلأت عناوين ظللت أطالعها حتى وافاني المعرض من السنة القادمة!

وهكذا أعدت تكوين مكتبتي، فانتقلت من نادي البعثرة إلى نادي التركيز، ومن عالم التراكم العشوائي إلى حالة التراكم المنظم، ومن حالة البناء الأفقي العريض إلى حالة البناء الرأسي العميق.

 

لإعادة التكوين وجوه أخرى

 أعرف أكثر من صديق، ألجأتهم ظروف الحرب في بلادهم إلى النجاة بجلودهم، وخلفوا وراءهم في بلادهم مكتبات شخصية كبيرة، فلما استقروا في المنافي؛ شرعوا يعيدون بناء مكتباتهم من الصفر، وفيهم من استطاع أن يستنقذ مكتبته بالكامل، أو مقداراً منها، ولأن إسطنبول ملأى بالمنفيين فقد سمعت ما يكفي من حكايات فقد المكتبات والحنين إليها والحسرة عليها، فهذا مسافر خلف وراءه مكتبة شخصيةً حافلةً، أنفق عليها عشرات الألوف من الدولارات، لكن عاقه الخوف من عاقبة العود إلى مكتبته، أو شردته الحرب عن داره، أو عاقته قلة ذات اليد عن شحن مكتبته إلى المنفى، أو لم يثبُت قراره بعدُ على مستقرٍ جديد بعدما ترك دياره.

تعددت الأسباب والفقد واحد، وفي كل تلك الحالات، يجد هؤلاء الناسُ أنفسهم في حاجة إلى تكوين مكتباتهم من جديد، وتتحكم قناعاتٌ جديدةٌ نتجت عن مرارة التجربة في تجربة تكوين المكتبة الجديدة.

وهكذا تثبت المكتبة أنها كائن يعيش، وينمو، ويسمن، و”ينحف”، ويموت، ويعود ليحيا من جديد!