إن من المواضيع التي تثير القارئ والمطلع على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العطرة  خصوصا في أوساط الآراء التي توافق أو تخالف عادة الاحتفال بذكرى مولد النبي الكريم في هذا الشهر، الوقوف على لطائف مشرقة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الأسوة الحسنة والقدوة العظمى، زكاه الله تعالى في محكم كتابه، وخلد ذكره في أبلغ تنزيله، لذلك نالت الشمائل المحمدية عناية العلماء الكبار قديما وحديثا، حتى في أبحاث غير المسلمين، سواء من جانب النقد أو الثناء.

وفي هذه الوقفة السريعة نحاول اختصار ما جاء من بيان منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثنايا كلام رب البرية سبحانه الخالد في القرآن الكريم، نحاول أن نستقي السيرة النبوية العطرة منه، ونعمق فكرنا في الآيات الناطقة بأوصاف الرسول، ونتدبر خصاله في المصدر الأول من التشريع بيانا وتحقيقا لخبر الله تعالى عن نبيه حين قال عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، واهتماما بجوانب الاصطفاء الإلهي الذي حظي به النبي الطيب الكريم.

وإن منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة ومفصلة بجلاء في مواقف مختلفة من القرآن الكريم، تتبع الشيخ محمد رشيد رضا هذه المواضع في كتابه “محمد رسول الله”، وهو كتاب ينبئ عن اختيار موفق للمؤلف حيث استقرأ النصوص القرآنية، ورجح تخصيص جزء في بيان مكانة رسول الله في القرآن الذي نزل عليه، بل كلل جهوده في هذا الكتاب بهذا الجزء النفيس، وهذه المحاولة تكمن فوائدها في تعريف عامة المسلمين بالنبي المرسل إليهم ، وتوصف طريق علمي في تدبر الآيات القرآنية المشتملة على أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأوصافه، وهو بالتالي يؤكد على ضرورة اهتمام المسلمين بالدفاع عن نبوة الرسول، إذ يستطيع المسلم بهذا المنهج إثبات مكانة النبي من خلال كتاب الله المنزل والمتلو آناء الليل وأطراف النهار، في وجه الإلحاد ومكائده.

وفي هذا المقال نختصر ما جاء في باب منزلة الرسول في القرآن من كتاب الشيخ محمد رضا (محمد رسول الله)، وذلك فيما يأتي.

أ – طاعة الله وطاعة الرسول: جاء الأمر بطاعة الله مقرونا بطاعة رسول الله، وهذا تشريف لمقام الرسول عند رب العزة سبحانه، قال الله تعالى:  (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [النساء: 80]، وقال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71]، فطاعة الله هي طاعة رسوله، لكونه صلى الله عليه وسلم مبلغا إلى الخلق أحكام الله، فمن أطاع الرسول فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله سبحانه وتعالى.

ب – الثناء على أخلاقه صلى الله عليه وسلم: فإن الله أثنى على أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، وهذا أبلغ في الثناء، وليس بعد ذلك ثناء، فإن حسن الخلق أعظم ما يتحلى به الإنسان، فكان الرسول هو المثل الأعلى وقدوة الخلق في محاسن الأخلاق. واستعملت الآية حرف (على) للدلالة على التمكن من الخلق، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم متمكن منه الخلق العظيم في نفسه، وفي دعوته الدينية.

أما الخلق العظيم المشار إليه فهو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبيء صلى الله عليه وسلم فهو حسن معاملته الناس على اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن. [التحرير: ابن عاشور].

3 – بعثة الرسول إحسان إلى كل العالمين:  فإن الله تعالى امتن على البشرية بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم، لما في بعثته من إعلاء كلمة التوحيد وإخماد الكفر والضلال، يقول الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164]، وتعد بعثته نعمة عظيمة على الخلق، وأعطى أوصافا جميلة للرسول، ليكون رمز التعليم والتزكية وهداية البشر بهدي الإسلام، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ: 28].

4 – الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: فقد جاء خبر صلاة الله وملائكته على النبي صلى الله عليه وسلم تشريفا بمكانته، وإدخال المهابة على الأمر الموجه بعده إلى المؤمنين في تكرار الصلاة على الرسول، يقول الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، يقول ابن عاشور: (وذِكر صلاة الملائكة مع صلاة الله ليكون مثالا من صلاة أشرف المخلوقات على الرسول لتقريب درجة صلاة المؤمنين التي يؤمرون بها عقب ذلك، والتأكيد للاهتمام).

ومعنى الصلاة في هذه الآية ذكر بخير، وأقوال تجلب الخير، فلا جرم كان الدعاء هو أشهر مسميات الصلاة، فصلاة الله: كلامه الذي يقدر به خيرا لرسوله صلى الله عليه وسلم لأن حقيقة الدعاء في جانب الله معطل، لأن الله هو الذي يدعوه الناس، وصلاة الملائكة والناس: استغفار ودعاء بالرحمات. [ابن عاشور: 22/98].

5 – التأدب في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم: فقد أوجب الشارع سبحانه على المؤمنين التزام الأدب عند التعامل بحضرة رسول الله تعالى، فقال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2]، حيث نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي؛ لأن من يرفع صوته عند غيره يجعل لنفسه اعتبارا زائدا وعظمة، وقد يكون المراد المنع من كثرة الكلام عنده لأن ذلك لا يليق في مجلس الرسول لعظم قدره. [محمد رشيد رضا، محمد رسول الله: 401].

وجاء التعليل لهذا النهي في قوله (أن تحبط أعمالكم) عناية بضرورة التقيد بالأدب في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الانصراف عن هذا الأمر يعود النفس سوء الخلق بحضرة النبي، فيوصل صاحبه إلى ضعف الإيمان حتى الكفر.

6 – تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]، فقد أعلم الله أعلم الله الأمة أن هؤلاء المنافقين الذين يشكون في إنصاف الرسول في الحكم، لا يكونون مؤمنين حتى يحكموا الرسول ولا يجدوا في أنفسهم حرجا من حكمه، أي حرجا يصرفهم عن تحكيمه، أو يسخطهم من حكمه بعد تحكيمه، وقد عُلم من هذا أن المؤمنين لا ينصرفون عن تحكيم الرسول ولا يجدون في أنفسهم حرجا من قضائه بحكم قياس الأحرى. [التحرير والتنوير].

7 – عدم مخالفة ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115]، ومعنى المشاقة المخالفة المقصودة، مشتقة من الشق لأن المخالف كأنه يختار شقا يكون فيه غير شق الآخر. وقد ألحق الله تعالى الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، ومشاقة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد.

ويقول محمد رشيد رضا: ودلت هذه الآية على عصمة الرسول عن جميع الذنوب، فلو صد الذنب من الرسول لوجبت مشاقته، لكن مشاقته صلى الله عليه وسلم محرمة بهذه الآية فوجب أن لا يصدر الذنب عنه، ودلت أيضا على أنه يجب الاقتداء بالرسول في أفعال؛ إذ لو كان فعل الأمة غير فعله صلى الله عليه وسلم لزم كون كل واحد منهما في شق آخر من العمل فتحصل المشاقة لكن المشاقة محرمة، فيلزم وجوب الاقتداء به في أفعاله صلى الله علييه وسلم. [محمد رسول الله: 402].