سعد بن عماد الكعكي

 

مع تقدُّم الزمان ومُضِيّ السنوات، تتفاقم المشكلات، وتكثر الفتن والنوازل، فتختلف الوقائع وظروفها، وتتبدّل أفهام الشعوب وعاداتها، فتزداد الحاجة لورثة الأنبياء، لكن قدَر الله قد سبق بالنفاد، فلا يمضي عام إلا وقد وارَى الترابُ عنّا ثُلّة من العلماء الأفذاذ، يذهبون ولا يسدُّ الثغر مَسَدّهم أحد!.

الحاجة للعلماء لا تكمن في العلم المجرّد الذي يحفظونه في صدورهم فحسب، فهذا وإن كان مُهمًّا ضروريا فإنه إن فُقد من الصدور فقد دُوّن في الكتاب المسطور، ويبقى للعلماء فضل فكّ رموزه، وتيسيره وتبسيطه ونشره، لكن حاجتنا إلى ورثة الأنبياء فوق ذلك، فإن العالم إذا سرى العلم في عروقه، وألِفَت روحُه العلم، صار تِرياقًا لأمراض الناس، جامعا لقلوبهم، مشجّعا للمحب الراغب في الخير، مُثنيا لصاحب الشر عن شرّه، لا تُغرِه المظاهر الفاخرة عن الحقائق الكامنة، ولا تفجَؤُهُ النوازل الطارئة عما هو بصدده.

وممن جمع ذلك وزاد، وتأدّب به وتعلّم منه الحاضرُ والباد، الشيخ الدكتور محمد المختار بن الإمام الفقيه المفسر الأصولي محمد الأمين الشنقيطي (صاحب أضواء البيان) رحمهم الله جميعا.

سيرته الذاتية

حصل للصحافة  لَبس وتشابه كبير في اسم الشيخ رحمه الله، وإذا تتبَّعتَ ما كُتب عنه ستجد العجب العجاب، من غلط في الاسم والنسب والكتب وغير ذلك، ولذا من الضروري أن نبين للجمهور سيرة -ولو مختصرة- عن الشيخ رحمه الله:

هو الشيخ العالم أبو الحسن (محمد المختار) بن (محمد الأمين) بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح، الجكني، الحِميَري، الشنقيطي، المدني.

وُلد عام 1364هـ في قرية قصاص ببلاد شنقيط ـ موريتانيا، وهاجر به أبوه إلى الحرمين الشريفين بعد ثلاث سنين، واستقرَّ مجاورا في المدينة المنورة (على ساكنها أفضل الصلاة والسلام)، فنشأ في بيت علم وفقه وديانة، فأخذ عن أبيه عالم الوقت الفقه والأصول والتفسير والمنطق وغيرها، كما تتلمذ على كبار علماء العصر، ودرَس في معاهد الجامعة الاسلامية في المدينة أوّلا، ثم درَس فيها ونال البكالوريوس من كلية الشريعة عام 1396هـ، ثم التحق بالدراسات العليا، ونال درجة الماجستير في أصول الفقه عام 1401هـ، وقد كان عنوان الرسالة (دراسة وتحقيق لشرح مراقي السعود للمرابط بن أحمد زيدان الجكني)، ثم نال درجة الدكتوراه عام 1404هـ، وكانت رسالته (دراسة وتحقيق لكتاب سلاسل الذهب للإمام الزركشي).

عمل أستاذا مشاركا في الجامعة الإسلامية، فدرَّس التوحيد والفقه وأصوله، وأشرف على رسائل الدكتوراه في عدّة جامعات، وترأس قسم أصول الفقه في كلية الشريعة، ومن طلابه اليوم من نالوا درجة بروفيسور(أستاذ كرسي) في الجامعة الاسلامية وجامعة أم القرى وغيرها.

شارك في وضع مناهج لعدة كليات، ودخل الساحة العلمية في المدينة المنورة من أوسع أبوابها، فأقام الدورات والدروس العامة والخاصة، في المسجد النبوي ومساجد المدينة المختلفة وفي بيته، وقُرِأت عليه المختصراتُ والمطوّلات، واستمرَّ بذلك إلى أن قبضه الله.

وقد قرأ عليه طلابه -في آخر عشرين سنة- أكثر من 40 كتابا مطوّلا في تلك الدروس، كـ(الموافقات للشاطبي)، و(قواعد الأحكام للعزّ)، و(نثر الورود)، وغيرها.

وامتاز رحمه الله بالحلم والوقار، قد رزقه الله سكينة يجدها الجالس في درسه، وعُمقا يجده المتلقي من علمه، وصَفحا عن جفاء بعضهم، ولُطفا في التعليم وتشجيعا للطالبين، ووسطية في التديّن، لا يغضبُ من مجادلة المجادلين بل ينصت إليهم إنصات المستفيد، ويلين لهم لين الوالد الرفيق.

واستمرَّ على درب التعليم – رغم كِبَر سنّه، بـهمة الشباب وجدِّ وجلَد، ملتزما في دروسه ومواعيدها، لا يغيب لغير ما ضرورة مُلحّة، وربما اعتذر لطلابه عن غيابه لاحقا!، وقصَّ عليهم بعض ما جرى له في سفره- إلى أن مرض مرضا شديدا ثم وافاه أجل الله المحتوم، فأسلم الروح إلى باريها ظهر يوم الثلاثاء، الأول من ربيع الأول عام 1441هـ  في مدينة رسول الله وفي شهر مولده، وصُلّيَ عليه في المسجد النبوي الشريف، ودُفن في البقيع.

الأصوليّ المُجِدّ

قد كان للشيخ -رحمه الله- اليد الطولى في نشر علم أصول الفقه وخدمته، وتحبيبه للطلاب وإشاعته بينهم، وإقحامه بين اهتماماتهم، وهدم الحواجز بينهم وبين كتب هذا الفنِّ العظيم، -(الذي هو آلة الفقه في الدين وأدلته الإجمالية، والوسيلة للتجديد المنضبط، والتنزيل الصحيح للنصوص على الحوادث المستجدّات)_ فرغم التنوُّع المعرفي للشيخ في الفقه والتفسير والمنطق واللغة، إلا إنه كان يولي أصول الفقه المكانة الأبرز، ولذا اشتُهِر به ونسب إليه، فكان يقال (المختار الأصولي) للتفريق بينه وبين الشيخ (د.محمد المختار الفقيه) المدرّس المشهور في المسجد النبوي.

لقد أثبت الشيخ لطلاب العلم في هذا الزمان أن مُطوَّلات العلوم عامة وأصول الفقه خاصة تُقرأ على الشيوخ، وليست المختصرات فحسب، فبعدما اقتصر كثيرون على (شرح الورقات)، أقرأ الشيخُ طلابَه وشرح لهم: (شروح المراقي)، و(روضة الناظر)، و(الموافقات للشاطبي)، و(قواعد الأحكام للعز)، و(إحكام الفصول للباجي)، و(الإحكام لابن حزم)، و(نهاية السول للإسنوي)، و(دفع إيهام الاضطراب)، وغيرها.

ولأن علم أصول الفقه يُشكّل عقل الفقيه الواعي، ويُقوّي ملَكة الطالب الناضج، فقد نجح الشيخ رحمه الله في تشكيل العقلية العلمية المتينة لدى طلابه وغيرهم، وأخرجهم من ضيق التصوُّرات الناقصة، إلى العلم المجرد عن كل شيء إلى عن الوحي.

لم يكن الشيخ نسخة مكررة عن والده الأمين كما قد يظن بعضهم، بل كان مستقلا بتفكيره وآرائه، ولذا تجده  يرجّح أحيانا خلاف قول أبيه، كمسألة المجاز فإنه يُثبته وأبوه ينفيه، وغير ذلك.

وقد كتب الشيخ عدّة بحوث في هذا المجال، وحقق عدة كتب؛ كتحقيقه لكتاب (تقريب الوصول لابن جُزَي)، وكتاب (لقطة العجلان للزركشي) و(مبلغ المأمول لابن بونا) وغيرها.

الفقيه المُرَبِّي

للشيخ رحمه الله اهتمام كبير بالفقه وفروعه، فقد قُرأت عليه مطوّلات فقهية، رأيتُ من ذلك (شرح الباجي على الموطأ)، لكنه كان يهتم كثيرا بفقه النفس، وأن يخالط الفقه والفهم حياة الإنسان وسلوكه وتفكيره، بل لحمه ودمه، وله من العبارات الرائقات التي تُنبيك عن عُمقٍ وحكمةٍ ورَوِيّـةٍ الشيءَ الكثير، أنقل لكم بعضها:

كان رحمه الله يقول: (الأساليب لا تُحاكم)، ويقول لطلابّه: (ناقشوا قول الرجل ودعكم من شخصه)، ويقول: (إنكار المحسوس مكابرة)، ويقول: (الإنصاف من شأن الأشراف)، ويقول: (لا ينبغي التشنيع على العلماء)، ويقول: (تلقيب بعض الدعاة ألقابا لم يتسمَّوا بها من التنابز بالألقاب المنهيّ عنه، وينبغي ذكر المسلم بأحسن أسمائه وكناه).

فهذه بعض العبارات التي تُنبيك عن طريقة تفكيره، وسلامة فطرته وذوقه، وطُهرة لسانه، وزرعه للألفة بين المسلمين، وتصغير الخلافات وتخفيفها،  وهذا الذي ربَّى عليه طلابّه.

ولذا كانت وفاته ثُلمة في الإسلام، حزنت عليه طيبة الطيبة وعلماؤها، ونعاه طلبة العلم والعلماء حول العالم، ومما قيل فيه:

                           الشيـخ كـان لدى الأحـبّة ناصحا … ومُربّـيًا بالحـب..كُـلٌّ يعـلمُ.

                            وأنـاقــــة وبسـاطـة عـاشـرتُـها … في الشيخ يا ربّاه أنت الأرحمُ.

                            نسج الأصول من الفصول وزادها … دُرَرُ التمكُّن فالكبارُ هـمُ همُ.

رحم الله الشيخ العلامة محمد المختار ونوّر ضريحه، وأسكنه فسيح جناته، وأخلف على الأمة خيرا، والحمد لله رب العالمين.