تحاول هذه مقاربة الإنسان في الخطاب القرآني بيان مدى الحاجة إلى تطوير علم للكلام يفسر ظاهرة الوحي مستعملاً آليات جديدة للتفكير، فالإشكالية تعتني بعلاقة الوحي بالتاريخ أو إذا اخترنا تعبيرًا آخر قلنا: كيف ينبغي أن نصوغ الإيمان اليوم؟

العبارتان في تقديري تنتهيان إلى شيء واحد مصاغ بطريقتين مختلفتين ومتكاملتين، ذلك أن الإيمان هبة أو حقيقة يتلقاها الإنسان ويصوغها سلوكًا وفكرًا، وقديمًا قرن المتكلمون بين الإيمان والعمل؛ لأن الذي يؤمن لا يمكنه إلا أن يتمثل التحولات الكبرى التي تعتمل في النسيج الثقافي الخاص والبناء الفكري العام ويحوّلها إلى وعي بالذات.

عبارة: “صياغة الإيمان اليوم؟” لا تعني أننا فقط إزاء مسألة ذاتية خاصة متعلقة بالسلوك الفردي التعبدي، بل هي أيضًا حركة وعي تقوم على معرفة العصر وتحديد متطلباته بشكل يجعل المؤمن في شروط تتيح تفعيل قدراته الخاصة، مما يفضي إلى حلول ومواقف جديدة أكثر فاعلية وتميّزًا.

حين نعبر عن هذه الإشكالية بالعلاقة بين الوحي التاريخ، فإننا لا نريد معالجة قضية كلامية مجردة لا صلة لها بالواقع وتساؤلاته الحضارية والفكرية، خاصة التي يطرحها الواقع المعاصر، إنه البحث في شروط الوعي الذهني، وكيف يمكن لمجتمعات المسلمين أن تعيش على شروط الوعي الحضاري العالمي الجديد.

عندما نتطرق إلى موضوع الإنسان في الخطاب القرآني ما نعنيه بالوحي هو وظيفته، وهي تحقيق الاتصال بين المطلق والنسبي، بين الكل والجزء للوعي بالكل، هدف الوحي إن فُهِم على هذا المعنى هو وضع الإنسان في سياق تاريخي ووجودي أشمل، وإعادة العلاقة بين الإنسان ومحيطه الكوني، لعل هذا ما عناه فهمي جدعان حين قال عن الوحي إنه خطا خطوة حداثية كبرى؛ إذ تدخّل في التاريخ ليحرّر العقلية العربية والفعل العربي من الميثولوجيا القديمة ومن سلطة الخرافة والتقليد وأساطير الأولين، وليسلّمها لسلطان السمع والبصر والفؤاد، أي إلى سلطات الإدراك الإنسانية الطبيعية لتكتمل بحكمتها وبالكتاب للإنسان أسباب العلم والفعل السديد.

الملاحظة الثالثة التي تتصل بالملاحظتين السابقتين تتمثل في سؤال: هل الفكر الديني عندنا له من التصورات والصياغات النظرية التي يمكن أن نصفها بالمعاصرة، أي التي تكون مقبولة لدى أجيال من المسلمين وغير المسلمين الذين تمثّلوا بدرجة من الدرجات التطورات الفكرية والحضارية الحديثة؟ ما نريد أن نعمل ضمنه هو الانخراط في هذا الطريق الجديد الذي شرع فيه بصفة واضحة محمد إقبال في النصف الأول من القرن الماضي، خاصة في كتابه تجديد الفكر الديني والذي واصله بعده عدد قليل من المسلمين وعدد أقل من المسلمين في البلاد العربية.

منذ كتب إقبال كتابه عن التجديد تبيّن أن السؤال الذي صاغه الإصلاحيون “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم” ليكون السؤال الإشكالي للتمشي الإصلاحي المطروح أصبح متجاوزًا؛ لكونه سؤالاً غير بنائي أي غير قادر على ربط الوعي الديني بالوعي التاريخي.

عوضًا عنه صاغ الفكر التجديدي وعيًا ينطلق من أن العالم كله يعيش حضارة واحدة وإن تعددت واختلفت المداخل والخصوصيات الثقافية، هذا الوعي تبنّى تعريفًا للدين على أنه: إيمان بمصير الإنسان؛ مما يجعل حقيقة الحياة الدينية هي اكتشاف المؤمن رتبته في سلّم الموجودات.

يحدّد إقبال ضمن هذا التمشي سؤال التجديد المختلف عن سؤال الإصلاح؛ فيقول: “هل الدّين أمر ممكن؟” أي كيف يتأتّى تعقّل الدين الإسلامي اليوم بوسائل الحضارة المتاحة وبمعارفها المتجددة، بعبارة الحاج حمد كيف يتم الالتحام بشروط الوعي المعاصر وليس وفق شروط الوعي التاريخي السابق.

حين عالج المسلمون مسألة الوحي قديمًا عالجوها، سواء أكانوا معتزلة أم أشاعرة أم فلاسفة من خلال الأطر المتداولة لديهم: ابن سينا مثلاً في القرن الرابع الهجري 318 – 429 العاشر الميلادي930 – 1037 قال عن الوحي إنه اتصال النبي بالعقل الفعال، العقل العاشر معبرًا بذلك عن تصوّر داخل المنظومة المفاهيمية التي كانت سائدة. كيف يمكن اليوم أن نقبل مقولة العقول العشرة؟ هل نعوّضها بمقولة المعتزلة بأن الوحي أصوات وحروف منظومة ومخلوقة ابتدائيًّا من الله في الهواء على مسامع النبي؟ أم ننظر في ما عبّر عنه باحث معاصر على أنه ارتباط communication؟.

ثم إن المسألة لا تتوقف عند هذا الجانب فقط؛ لذلك سألنا هل الفكر الديني عندنا له من الصياغات النظرية التي تقتضيها الأطر المعرفية المعاصرة أي التي تكون، من جهة، مقبولة من أجيال من المسلمين وغير المسلمين الذين تمثلوا بدرجة من الدرجات التطورات الفكرية والحضارية الحديثة، من جهة أخرى تتيح إعادة اكتشاف معاني القرآن وفق شروط الوعي المعاصر.

السؤال يتعلق بكيفية تمثلنا الفكري والمنهجي لإيمان هو بحاجة دائمة للتحيين والراهنية.

بهذا السؤال يمكن تجاوز فكرة الصدام (شرق/ غرب) أو (إسلام/ مادّية) ويتحدّد التجديد بضرورة إعادة النظر في جملة من المفاهيم التأسيسية يكون على رأسها مفاهيم الدّين والوحي والمعرفة والنبوّة.

كيف نعمّق مسألة العلاقة بين الوحي والتاريخ وكيف نحقق راهنية الإيمان؟

أحاول أن أقدم فيما يلي وبنوع من التدرّج ثلاثة مستويات من النظر تتضافر للإجابة عن هذا السؤال المثنى. [التجديد والأنساق الثقافية – النص والخطاب – تنجيم المعنى].

التجديد: راهنية الإيمان

يمكننا أن نسأل في مستوى أول عما تميز به هذا الكم من الإنتاج الذي يعالج نص الوحي مقارنة بما سبق أن نُشر من تفاسير أو دراسات قرآنية في قرون ماضية؟.

إن أهم ما ظهر في القرن الماضي ضمن هذه الوفرة اللافتة من الإنتاج هو ظهور إدراك موضوعي للفجوة الكبرى بين ما تم إنجازه من مدوّنة تفسيرية وبين القيم والمفاهيم والروابط التي أصبحت تصوغ الواقع وتحكم العالم من حوله، لقد اعتنى عدد من الباحثين في الدراسات القرآنية بالنسق الفكري الذي يحتكم إليه كل من يتعاطى مهمة فهم الوحي، ذلك أن المتكلمين والمفسرين والدارسين يرتكزون على نظام فكري ومنظومة ثقافية حين يباشرون فهم النص، مما يجعل إنتاجهم العلمي غير منفصل عن التاريخ الفكري والثقافي، أي أنه محتاج إليه قدرًا من النسبية يجعله أبعد ما يكون عن الخطاب الأيديولوجي الوثوقي.

معنى التجديد الذي تبلور في القرن المنصرم ضمن الأدبيات القرآنية العديدة ينطلق من تبـيان طبيعة الاختلاف بين المدونة التفسيرية الموروثة والحاجيات التي يطرحها الفكر والواقع المعاصران؛ لذلك أمكن القول بأنه لا يُعَدّ مجددًا من شخّص إشكالية المفسر الرئيسية خارج الموروث التفسيري وخارج البناء الفكري الذي قام عليه ذلك الموروث، وهذا ما يسمح لنا أن نعتبر أي ضرب من الدراسات القرآنية التي تصدر اليوم تقليدًا إن هو لم يزد في اهتمامه عن إعادة صياغة المعاني القديمة بلغة مستساغة أو عن الاعتناء بترجيح بعض أقوال المفسرين القدامى في مسائل لغوية وعقدية وتشريعية، وحتى إن كان في ذلك مستفيدًا من بعض الاكتشافات العلمية أو التاريخية الجديدة.

في هذه الحالات يظل المسعى العلمي مستندًا جوهريًّا على الجانب الموروث فهو لن يزيد في ما ينتجه من أفكار وما يعتمده من نسق عن كونه يتيح لتلك المباني الفكرية والثقافية من إعادة إنتاج نفسها مع بعض التعديلات الشكلية الطفيفة، من ثَم فإن هذه الاستعارات لا تشفع للباحث الذي يظن أنه بصدد عمل تجديدي في حين أنه يبقى عملاً تراثيًّا؛ لأنه أولاً لم يطرح إنتاجه على محك النقد وإعادة القراءة بناء على أن تشخيصه لطبيعة عمله العلمي يظل منصبًّا على عناصر “خارجية” بالأساس.

ثانيًا يبقى هذا المفسر أو المتكلم تراثيًّا؛ لأنه لم يفكر هو من خلال تراثه، بل يكون قد مكّن ذلك التراث من أن يتواصل عبر عملية استنساخ ثقافي تؤكد عدم الحاجة إلى إعادة بناء الفكر وتحيينه.

بتعبير آخر يمكن القول إن المجدد في المجال الذي يعنينا هو الذي يقطع إيجابيًّا مع التراث التفسيري القديم عندما يـباشر فهم الوحي الإلهي وبناءَ فهمه ذاك على وعي تاريخي يتجاوز آلية التراكم الكمي، ما يضبط لنا معنى القطع الإيجابي أو التجديدي، وهو أن يصير المفسر إلى ضرب من التفكير ليس بالتراث ومن خلاله فقط، لكنه تفكير يستوعب التراث التفسيري فيفهمه ليتجاوزه مستفيدًا في ذلك من مجالات المعرفة الإنسانية المختلفة.

تجديد المفسر إذن لا يسمح له أن يصبح مجرد أداة “يفكر” التراثُ عبرها، بل أن يقطع مع هذا المنهج ليفكر هو في التراث ومسوغات إنتاجه التاريخية والثقافية.

في كلمة، يُدرَك تجديد المفسر بقدر تحرّره من المدونة التفسيرية الموروثة وذلك عبر استيعابها ونقدها ناسجًا بذلك قراءة متميزة للنص تستمد تميزها من معرفة أدق بتاريخ نظام الفكر الإسلامي، وخاصة في مجال تخصصه ومن استحضارها لقضايا العصر الفكرية والاجتماعية والأخلاقية.

هذا ما يؤدي بنا إلى القول بأن ظاهرة الوفرة في إنتاج أعمال كثيرة لفهم النص القرآني في العقود الأخيرة يرجع في جانب رئيسي منه إلى جهود الحداثة العربية وما تبنته من مواقف نقدية كان لها الأثر الواضح على الدراسات القرآنية.. لقد أدخلت في الاعتبار الفكر النقدي وجانبًا من المعارف الحديثة ضمن مجال كان يُحتكَم فيه إلى الأنساق التراثية ومبانيها العقلية المحدودة.

لذلك فإنه يمكننا في هذا المستوى الأول أن نثبت أن رفض هذا التمشي الحديث وما يؤدي إليه من تجديد ليس في النهاية إلا تهديدًا للبناء الديني نفسه الذي يُظَن أن حمايته لا تكون إلا بعزله عن مسيرة الحضارة والتاريخ، هو تهديد صريح للرسالة الدينية؛ لأنه إهمال لمبدأ خلافة الإنسان التي لا تستطيع أن تتحقق خارج الشروط التاريخية والاجتماعية والفكرية المعاصرة.

من نص التوحيد إلى وحدة النص

– إذا أردنا أن نحدّد موقع الإنسان في الخطاب القرآني فلا بد أن ندرك أن الوحي لم يتجاهل الشروط الموضوعية للسياق التاريخي التي واكبته، مما جعل النص متعلقًا في جانب منه بالأداء الحضاري للإنسان في القرن السابع ضمن البيئة العربية الشمالية، هذا الإقرار جزء مما يسميه المفكر الإيراني المعاصر مجتهد شبستري “علم النص” وهو علم يربط بين المتن وبين الواقعيات المحايثة له.

كيف يتبدّى لنا الإنسان في النص القرآني أولاً وفي الخطاب القرآني ثانيًا؟

ذُكر لفظ الإنسان في النص القرآني مرات قليلة لا تتجاوز الـ65 مرة، فهو من هذه الناحية لا يعتبر من أهم الألفاظ القرآنية مقارنة بلفظة الله التي تُعَدّ أشد الألفاظ تواترًا، حيث تبلغ نسبة اطرادها 2697 + 147 لكلمة إله = 2844 [قال 1721/ كان 1433/ ربّ 930/ أمن 924/ علم 855/ قام 560/ أتى 548/ شاء 519/ يوم 474].

من جهة ثانية فإن السياق الدلالي الذي ترد فيه كلمة الإنسان يتوزعه محوران: محور الإدانة الواضحة فهو ضعيف – يئوس – خصيم مبين – عجول – كفور – في خسر – أكثر شيء جدلاً. هذا شأنه في أكثر من نصف الآيات التي تذكر الإنسان.

إضافة إلى هذا نجد محورًا يتحدث عن خلقه وما أودعه الله فيه من استعدادات متباينة: فهو من حمإ مسنون – من علق – من صلصال، هذا إلى جانب أن الله علمه البيان وعلمه ما لم يعلم وأن الشيطان له عدوّ.

كيف يمكن أن نعالج هذا الجانب من النص والحال أن عموم الخطاب القرآني يتجه في خصوص الإنسان وجهة أخرى؛ إذ يجعله يحظى بمكانة متميزة فهو خليفة الله وهو مخاطَب بالوحي؟

هنا لا بد من العود إلى ما أشرنا إليه من “علم النص” الذي ينطلق من الوعي بخصوصية الوحي وطبيعة الخطاب الإلهي للناس.. يتأسس هذا العلم من مبدأ أن الله الذي تجلى للعالم قد تجلى للإنسان فخاطبه بالرسالة، وجعل نصها الديني غير منفصل عن تاريخه في الوقت الذي تكون وظيفة الوحي تعاليًا وتحررًا من ذلك التاريخ.. بعبارة أخرى علم النص يعتبر أن الوحي الإلهي حين يتجسد نصًّا لا يستقل تمامًا عن التجربة الإنسانية وإن كانت غايته مجاوزتَها.

حين ينصّ القرآن مثلاً على أن الإنسان “لا يسأم من دعاء الخير”، وأنه إذا أنعم الله عليه “أعرض ونأى بجانبه”، حين يقع هذا فلا بد أن نتذكر أولاً أن لفظة الإنسان في اللغة القرآنية قريبة العهد بالاستعمال اللغوي العربي القديم الذي يتداول هذا اللفظ في سياق استهجاني؛ لأن الإنسان قرين الضآلة والانقطاع والخروج عن الجماعة، يساعدنا على التحقق من هذا لسان العرب ومعجم التاج الذي نجد فيه في فصل الهمزة باب السين: “الإنسان معروف والجمع الناس مذكر… والإنسان له خمسة معان أحدها الأنملة قاله أبو الهيثم… أشارت لإنسان بإنسان كفها*…. وثانيها ظل الإنسان وثالثها رأس الجبل ورابعها الأرض التي لم تزرع وخامسها المثال الذي يرى في سواد العين ويقال له إنسان العين…”.

ما ورد من الآيات عن الإنسان” الكنود” أو الذي “يفجُرُ أمامه” وثيق الصلة بالنسق المعتمد في الثقافة العربية السائدة وهو نسق يعتبر التفرد مهلكة وخسرانًا، بينما يعلي من شأن الانضواء في العشيرة والسعي المتواصل لجمع شتاتها، هذا الترسّب التاريخي المستهجِن لنزعة التفرد قائم في النص القرآني على الرغم من أن خطاب الوحي يريد باستعماله إياه أن يزحزحه ويدفع به خارج هذا الحقل؛ فيذكر أن الإنسان هو أيضًا مصغٍ إلى النصح وقابل للتوجيه “ووصينا الإنسان بوالديه” أو أنه “على نفسه بصيرة” أو أنه “خلق في أحسن تقويم”.

هذه المواكبة التي يكشفها لنا بحث الإنسان في الخطاب القرآني تجعلنا ندرك أن النص يتفاعل مع الشروط الموضوعية التاريخية، ولكنه لا يقف عندها، من ثَم كان لا بد من التمييز بين نص القرآن كمتن وخطاب القرآن الذي هو أوسع مجالاً؛ لأنه مرتبط بعالم ذلك المتن وعالم النبي الذي استوعب الوحي.

صورة الإنسان في المتن إذن مختلفة عنها في الخطاب القرآني، وهذا يتأكد خاصة عندما نتذكر ثانيًا أن النص القرآني يعتمد لتحقيق هذه الزحزحة الدلالية على ألفاظ أخرى يركّز بها هذا المعنى الذي يدفع إليه الوحي دفعًا من خلال قوالب فكرية وتعبيرية لها ملابساتها الخاصة. من ذلك ما نجده في لفظة “نفس” ذات الاطراد الأكبر وذات التوجه المعبر عن الاستعدادات الكبرى التي يتمتع بها الإنسان لتحمّل المسئولية في الرسالة (التوحيد والاستخلاف). هي النفس الواحدة الجامعة “هو الذي أنشأكم من نفس واحدة” وهي النفس المكلَّفة “ولا تكلف نفس إلا وسعها” وهي المسئولة “يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها”. مع عبارة النفس التي سيستفيد منها الفلاسفة بعد ذلك في مسار آخر نجد النص قد وفّر للخطاب دائرة دلالية أرحب مما أوضحته جزئيًّا عبارة الإنسان.

من ناحية ثالثة أبان هذا التعدد التزامني (Synchronique) في الألفاظ المعتمدة المرتبطة بالإنسان ما يوجد من فروق هامة يريد الخطاب الديني أن يكشف عنها، فروق بين دائرة النفس ودائرة الإنسان باعتبار أن الأولى تمثّل مجالاً أعمق من مجال نفسية الفرد العادية، هذا التمايز يوحي بإمكانية اتصال الذات الإنسانية بذات الحق العليا بما يكشف عن تفرّدها وقدرتها.

هذا التعدد في مستويات الفهم مهم؛ لأنه كفيل بما يمكن أن نسميه “وحدة الخطاب وتعدد مستويات النص”، وهو ما اعتنى به الحاج حمد صاحب كتاب الإسلامية العالمية الثانية حين ربط بين فهم القرآن في كليته وفهم طبيعة القرآن نفسه.

“وحدة الخطاب وتعدد مستويات النص” تبرز الفرق الجوهري بين من يرى أن القرآن كتاب حاوٍ لسور مفصلة تتضمن عبادات ومعاملات، وبين من يرى فيه بالأخص سجلاً إلهيًّا مفتوحًا على التجربة الوجودية الكونية، ظاهريًّا ليس هناك تناقض بين الرؤيتين إلا أن الأولى مطبوعة بطابع ثبوتي لا يولي كبير عناية لما يمكن أن يعنيه أن القرآن مصدر الحكمة الشاملة أو ما يسميها الحاج حمد: قدرات القرآن في عطاءات عصورية مستقبلية. مثل هذه الرؤية لطبيعة القرآن تجعل المؤمن القارئ لا يمكن أن يكون إلا تجديديًّا، أي معبرًا عن حاجيات الأمة المتجددة مستنيرًا بـفـهم القرآن في كليته ونظريته المجسدة لحقيقة الرسالة المحمدية في لحظة تاريخية محددة.

“وحدة الخطاب وتعدد مستويات النص” جزء أساس من علم النص الذي لا يرى في النص سديمًا متراميًا فلا يقتصر على القول بأن القرآن هو نص داع لعقيدة التوحيد ولمستلزماتها السلوكية، بل يرى فيه أيضًا النص الذي يمكن المؤمن في كل فترة من خلال قراءة توحيدية للنص أن يتدخل في التاريخ؛ ليساهم في اكتمال حكمة الإنسان ودعم أسباب علمه وتسديد فعله.

هذا التمشي التجديدي أو الحداثي حسب عبارة جدعان يمكّن من الانتقال من مستوى القول بأن القرآن هو نص مركِّز للتوحيد إلى مستوى يعتمد فيه على توحيد النص، هو مستوى من التوحيد يمكن أن يتحقق في كل عصر ومصر إذا انفتح المؤمنون على كامل القرآن، أي على عالمه وخطابه بكل استعداداتهم وبحسب ما تستلزمه طبيعة عصرهم من وعي جديد.

في تنجيم المعنى

عندما أكد فضل الرحمن (1919 – 1988) في مطلع كتابه “الإسلام وضرورة التحديث” أنه لا سبيل لتغيير اجتماعي في البلاد الإسلامية دون إرساء نزعة عقليّة إسلامية، وأن هذه الأخيرة موصولة بأسلوب تفسير القرآن فـ”تعثّرات الحاضر وعدم نجاعة الأدوات الفكريّة المعتَمدة إنما يرجع إلى الافتقار إلى المنهج الصالح لفهم القرآن نفسه”، عندما أكد ذلك الباحث الباكستاني [المدير السابق لمركز الدراسات الإسلامية بإسلام آباد ومدرّس الفكر الإسلامي في قسم لغات الشرق الأدنى بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية] فإنه كان يريد أن يثبت أمرين:

1 – أن الوحي والخطاب القرآني قد تحوَّلا -كلاهما عند المسلمين- اليوم إلى نص، أي إلى مرجعية توحيدية؛ لذلك فإن الذي يسعى إلى تغيير تلك المجتمعات والنهوض بها دون الاعتماد على القرآن كمرجع وذاكرة وهوية جماعية سيُسقط إمكانية أساسية في عملية النهوض.

2 – إن تعثر الجهود العديدة في التعامل مع النص القرآني منذ عقود راجع إلى أننا نقرأ النص على أنه متعال لا ينحصر في زمان أو مكان أو أننا نقرأه في اتجاه مناقض، أي على أنه لا ينفك مرتبطًا بالقرن السابع في الجزيرة العربية.

ما عمل على إرسائه فضل الرحمن خاصة هو القول بأن الرأيين في طبيعة القرآن ليسا بالضرورة متعارضين، بل إذا قلنا إن القرآن يظل دومًا صالحًا للتطبيق فعلينا أن ننظر كيف تمّ اعتماد خطابه وتفسير تعاليمه لتناسب الظروف المتغيرة في العصور الأولى للإسلام، إنه استيعاب للدلالة العامة للنص وإدراك لتطبيقاتها المختلفة ووعي بالظروف التاريخية التي صاحبتها، ثم هو فوق كل ذلك، ومن ثَم تحقيب للوعي وقدرة على المساهمة في مشاغل المجتمع وتفاعلاته.

هذا التوجه يفتح الباب لإعادة النظر في جملة من القضايا تلتقي جميعُها حول ثلاثة مبادئ: المبدأ الأول: اعتبار النص القرآني ليس مجرد نص تاريخي، هو نص تجسدت فيه آيات المتعالي على التاريخ، كما يعتقد المسيحي بإمكان وجود آيات المتعالي في الإنسان، لكن هذا لا يعني أن النص القرآني لا يحمل جوانب تاريخية معايشة للواقع البشري، كما أنه لا يمكن أن يفهم على أنه نمط علاقة سؤال – جواب.

المبدأ الثاني: أن الوحي بما هو علاقة بين الله والإنسان، مما يجعل الخطاب القرآني هو الفهم للنص المقدّس فهمًا حيًّا، أي أنه بالضرورة مختلف عما تحقّق في الماضي ولكنه أكثر تحديدًا إنْ هو تحقّق عبر تجربة معرفيّة وحياتيّة جديدة. إنه خطاب يستوعب النص وعالَمه وكذلك آلية الوحي ومقصده؛ ليكون من قبيل الاستقبال والاحتضان للقدرة اللانهائية على الدلالة ومعنى الأشياء.

المبدأ الثالث: التاريخ والهوية معطيان متغيران، أي أننا في كل عصر نعيد فهم الماضي فهمًا جديدًا، مما يعطي قراءة النص المقدس القديم وجودًا مستمرًّا في حاضر يزداد وعيه بالماضي من خلال تجربته الحديثة. مقتضى هذا المبدأ يؤدي إلى أن الإقرار بانقطاع الوحي واكتمال تنجيم القرآن نصًّا لا يمنع من ارتقاء فهم النص الديني باعتماد المعرفة بمجالاتها الجديدة وما يطرحه الواقع من معضلات.

هذه المبادئ الثلاثة التي تختزل الجهد التجديدي الباحث في علاقة الوحي بالتاريخ تفضي إلى فهم جديد للإنسان؛ فالإنسان في ظل المبادئ السالفة يكتسي معنى جديدًا؛ يقترب من المفهوم الحديث للإنسان تلك الذات المدركة لنفسها تمام الإدراك. إنه يصبح كائنًا تاريخيًّا، أي متجاوزًا دائمًا لما عليه فعليًّا فكأنه مدعوّ إلى أن يلد كيانه الخاص. تاريخية الإنسان في ضوء القراءة التأويلية تعني أنه يفهم نفسه ليس من خلال التأمل العقلي، بل من خلال التجارب المتجدّدة والموضوعيّة للحياة. تبعًا لذلك فإنه في فهمه المتجدد للنص المقدّس مقبل ضرورة على تعديل فهمه لنفسه فيكون في حالة اكتشاف مستمر لهويته التي تكون في حالة تخلّق.

ما تؤدي إليه المبادئ الثلاثة والفهم التاريخي للإنسان توحي به الآية القرآنية التي تقول عن الوحي: “قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا”.

خاتمة

إذا كان الوحي متجسدًا في فهم حيّ لا يتوقف للخطاب القرآني فإن النص القرآني لا يمكن أن يكون مجرد وثيقة توجيهية نظرية عامة، إنه وحي إلهي امتزجت توجيهاته بتاريخ محدد وتلبست مقاصده في واقع مما اقتضى حلولاً وإجابات مناسبة. نفس هذا الجدل يحتاجه كل قارئ للقرآن إن هو أراد أن يكون مجددًا؛ ليحدد به عنصر الفاعلية في النص وفي المدونة التفسيرية وليستنبط ما هو مستتر من الإرادة الإلهية وهي تفعل في التاريخ وتزيد من كشف الفاعلية الإنسانية.

لا بد إذن عند القيام بقراءة تجديدية تواجه النص القرآني، من التمييز بين ما هو ظرفي تاريخي وما هو قيم وتوجهات محركة للإنسان وطاقاته المبدعة، وأن يدرك كيف تمّ التزاوج بينهما في صياغات حققت تغييرات كبرى، كان من أهمها مزيد لاكتشاف الإنسان لذاته ومكانته ووجهته.

ذلك هو الفهم الآخر لمقولة صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، فهم يكون معاناة للحكمة الإلهية بمشاغل الواقع، فهم لا يعتبر مجازفة القول بأن القرآن مجيد، وكريم، ومكنون ذلك أن المجيد في اللغة هو الذي لا يبلى مع متغيرات الزمان والمكان، والكريم هو الذي يتجدد عطاؤه والمكنون هو