شاع في الأديبات المعاصرة أن تُطرح القضايا والإشكاليات من خلال سؤال كبير أو عدة أسئلة تتمحور حول الجوانب الأساسية من هذه القضية أو تلك، بحيث نستطيع من خلال الإجابة- أو محاولة الإجابة- عن هذه الأسئلة أن نلم بالقضية المطروحة بشكل كبير وأساسي.. ولهذا يقال: سؤال المعرفة، أو سؤال الحضارة، أو سؤال الأخلاق.. وهكذا.

 

فليس وسيلة أفضل من صيغة “السؤال”، في تحريك الذهن، ودفعه إلى البحث والتنقيب وتقليب المسألة على وجوهها المتعددة، ما ظهر منها وما خفي.

والأمر هكذا، فليس عجيبًا أن يكون لـ”السؤال” ذاته سؤالاً؛ أي أن نطرح ما يتعلق بـ”السؤال”- من حيث المفهوم، والأهمية، والدلالة، وكيفية تفعيله واستثماره.. إلخ- من خلال صيغة سؤالية/ استفهامية؛ حتى نقف على أهمية “السؤال” في تحريك العقل، وفي تطوير مناهج البحث وأساليب التربية وغير ذلك من مناحي الحياة.

ويمكن أن نقول عن “السؤال” إنه أمر يتعلق بالذهن يبحث عن جواب، ويدفع للمعرفة والتفكير. وهناك علاقة طردية بين مستوى الأسئلة وجديتها وعمقها، وما يتحصَّل عليه المرء من إجابات، أو حتى من أسئلة أخرى تتولد عن السؤال المطروح وتدفع للمزيد من البحث والنقيب.. ومن هنا، يقال: حسن الجواب من حسن السؤال؛ أي من حسن فهم المجيب للسؤال، أو من حسن طريقة السائل؛ فقد يدفع سؤال ذكي إلى البحث عن إجابة لم تكن في ذهن المسئول من الأصل.

وقد عاب النبي على من أفتى بغير علم، حتى تسبَّب ذلك في موت السائل؛ كما في القصة المعروفة، وقال : “قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ! أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ”([1]). وجاء في (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر: “حُسْنُ المَسْأَلَةِ نِصفُ العِلم”. وفي (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) للبغدادي: “حُسنُ المسألةِ نصفُ الفِقه”.

إذن، السائل والمسئول- حتى لو كان السائل أقل علمًا- يتكامل دورهما في إنتاج المعرفة، والتماس الحقيقة.

وربما لا يتحصَّل المرء من “السؤال” على جواب؛ وهنا لا يمكن أن يزعم أحد بأن “السؤال” فقد قيمته ووظيفته؛ لأنه هدف السؤال بدرجة كبيرة تحريكُ الذهن، واستكناه المجهول، سواء وصل إليه المرء أو لم يصل.. فرحلة البحث نفسها متعة وأي متعة.. وعلى المرء أن يسلك الطريق/ السؤال، وليس عليه أن يبلغ النتائج/ الأجوبة.

و”الحياة” في مجملها نستطيع أن نقول عنها إنها عبارة عن “أسئلة كبرى”؛ تتعلق بمعنى الحياة، وكيف بدأت وإلى أين تنتهي، والغاية منها، وهل خُلقنا عبثًا أم لوظيفة محددة، وهل جئنا من تلقاء أنفسنا أم هناك خالق.. إلى غير ذلك، مما تاهت فيه العقول، وجاءت الأديان لتوضيحه وتفصيله، وتوفر على الإنسان عناء البحث فيه، خاصة فيما يفوق قدراته مما يتصل بعالم الغيب.

وما يصدق على “الحياة” يمكن أن يقال عن “الإنسان” نفسه؛ فالإنسان “كائن متسائل”، كما يقول المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين، في كتابه (التجليات الروحية في الإسلام).

ويوضح سكاتولين ذلك قائلاً: “إن الخبرة الإنسانية العامة تثبت بكل وضوح أن الكائن البشري، تحت كل سماء وفوق كل أرض، كائن في حركة دائمة لا تنتهي أبدًا. وهذا لأنه يجد نفسه مُلْقًى في سلسلة لا تنتهي من التساؤلات- أو قل: من الألغاز- حول معنى حياته ووجوده.

فقد أقلقت تلك التساؤلات- ولا تزال تقلق- القلبَ البشري في أعماقه، في ماضيه وحاضره: ما الإنسان؟ ما معنى حياته وما غايتها؟ ما الخير وما الشر؟ ما مصدر الآلام وما غايتها؟ ما الطريق الذي يقود إلى السعادة؟ ما الموت وما مصير الإنسان بعد الموت؟ هل هناك حساب وجزاء؟ وكيف ذلك؟ وأخيرًا: ما السر المطلق المتعالي على الكل حتى يتعذر وصفه؛ والذي يحيط بوجودنا من كل جانب، والذي منه نستمد أصل وجودنا وإليه نصير؟ وهلم جرَّا من مثل هذه التساؤلات والإشكاليات الوجودية التي تشكل صميم الكائن البشري بقدر ما هو إنساني”([2]).

هذا على الصعيد الفكري والفلسفي.. أما على الصعيد التربوي، فقد قرر علماء التربية وخبراء النفس أهمية “السؤال” في تشكيل وعي الطفل، ومن ثم، أهمية الاعتناء بأسئلته وأَخْذِها على محمل الجد، وعدم تسفيهها، بل ودفعه إلى فن السؤال، بحيث يكون السؤال مدخله لتحصيل الإجابة، دون الاعتماد على أسلوب التلقين الذي قد يلغي شخصية الطفل، ويجعله نسخة مكررة من الآخرين!

وعلى نطاق أوسع، يتصل بواقع أمتنا وبجمود الفكر فيها، يمكننا القول: إن من أهم أسباب غياب العقل المسلم المعاصر عن التفاعل الجاد مع ما يُطرح عليه من قضايا وما يواجهه من تحديات، هو عدم قدرة هذا العقل على الغوص وراء الأسئلة مكتفيًا بظواهرها، لأنه ليس عقلاً نقديًّا بالقدر المطلوب، بل رُبِّي بالتلقين الأقرب للتسطيح! حتى ارتبطت صورة “السؤال” في الأذهان بالسفسطة والجدل الفارغ من الجدية، لا بالقدرة على استكناه الحقائق وتوليد أسئلة من قلب الأسئلة!

فصرنا، كما يشتكي الشيخ الغزالي، نتلقى الهزائم تلو الهزائم دون أن نتوقف أمامها متسائلين: لم حدث ما حدث؟ وما دورنا فيه؟ وما مسئولتنا عنه؟ وكيف يمكن منع تكراره والخروج من آثاره؟!

يقول الشيخ رحمه الله: “إننا لم نحسن دراسة ما أصابنا من هزائم فادحة، وما أقمنا حواجز ضد تكرارها، ولا يزال ناس منا مشغولين بأنواع من المعرفة لا تضر عدوًا ولا تنفع صديقًا؛ وتيار الأحداث الزاخر يلطم الوجوه، ويطوي جماهير بعد أخرى، ونحن لا نربط النتائج بأسبابها، وما فكرنا في دراسات ذكية جريئة لمعاصينا.. ولا أدري: لماذا الخشية أو لماذا الجمود؟ هل مستقبل أمة من مليار إنسان شيء هيِّن؟ هل النكسات التي عرت رسالتها غير جديرة بالتأمل!”([3]).

إن “السؤال” هو ما يُنتج العقلَ النقدي القادر على التعامل مع الأزمات والإشكاليات بما تستحقه من إعمال الفكر، والنظر للوجوه المتعددة للأمر، والغوص وراء ما خفي، وعدم الاكتفاء بما يتيحه النظر السطحي، وما تقرره الوهلة الأولى.

لكننا نزجر الطفل حين يحاول طرح سؤال.. ثم نزجر الكبار حين يحاولون مساءلة الحكام! ولو أحسنا الأولى لنجحنا في الثانية، وتمسَّك الناس بحقهم في السؤال والمساءلة، ولم يفرطوا في ذلك تحت دعاوى شتى!

إنه “السؤال”.. يجعل من حياة الإنسان معنى، ولعقله فاعلية، ولشخصيته وجودًا حقيقيًّا..

وإنه “السؤال”.. حين غاب عنا صارت أفكارنا نُسخًا مكرورة، نَجترُّ ما نتوارثه دون إضافة، ونقف عاجزين فيما يواجهنا لا نأتي بجديد ولا نحاول حتى طرح الأسئلة..!


([1]) أخرج أبو داود في سننه عن جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: “قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ؛ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ- أَوْ يَعْصِبَ. شَكَّ مُوسَى- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ”.

([2]) “التجليات الروحية في الإسلام”، سكاتولين، ص: 28، ترجمة أحمد حسن أنور، طبعة مكتبة الأسرة 2012م.

([3]) “جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج”، الغزالي، ص: 101، 102، نهضة مصر.