“التربية الإسلامية” ذات دور أساسي ومحوري في بناء الشخصية وتنمية مختلف جوانبها، وإكسابها القدرة اللازمة للتعامل الناجح مع الحياة. ولاشك أن هذه التربية تواجه الكثير من التحديات، وتتطلب تعاونًا من المؤسسات المعنية بغرسها وتنميتها لدى الفرد والمجتمع. في هذا الحوار نتوقف مع التربوي المغربي د.محمد سعيد صمدي، لنستكشف “التربية الإسلامية” في مفهومها ودورها ومؤسساتها وتحدياتها، إضافة إلى ما يتعلق في هذا الصدد بالشباب الذي هو العمود الفقري لأي مجتمع من المجتمعات.

  • للتربية الإسلامية مصادر غنية تمتح منها توجهاتها وتؤطر المنتسبين إليها
  • لابد أن نتجه لبناء الإنسان فكرًا وعاطفةً وسلوكًا دونما تفريط في جانب
  • “الأسرة” هي المهد الأول لصناعة الإنسان النافع لنفسه ووطنه والإنسانية
  • شبابنا إذا وجد خطابا تربويا راشدا يُحببه في دينه وقيمه، يتفاعل ويستجيب
  • توجد هوة بين المناهج التربوية الرائدة ومُخرجات المنظومة والدور المنشود

الدكتور محمد سعيد صمدي أستاذ التعليم العالي مساعد/ المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة، من مواليد مدينة طنجة بالمغرب الأقصى سنة 1966م، وحصل على الدكتوراه في الأدب المغربي سنة 2000م، والتحق أستاذًا مكونًا بمركز تكوين المعلمين والمعلمات بطنجة سنة 2001 إلى الآن، حيث أصبحت مؤسسة التكوين تضم تكوين وتأهيل جميع أصناف المدرسين بمعهد واحد يحمل اسم “المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين”.

وقد نشرتْ له وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سنة 2015م أطروحة الدكتوراه من سِفرين تحت عنوان “شروح مقصورة المكودي، شرح محمد مفضل التطواني نموذجًا- دراسة وتحقيق”. وشارك مع الدكتورين إدريس مقبول وفؤاد بوعلي بتنسيق كتاب جماعي تحت عنوان “اللغة العربية وأسئلة الهوية والثقافة في عالمنا العربي”” طُبِعَ سنة 2019م. كما نشر مقالات وأبحاثًا في التراث الأدبي ومنظومة التربية والتكوين وديداكتيك اللغة، بمجلات متخصصة داخل المغرب وخارجه.. فإلى الحوار:

ما مفهوم “التربية الإسلامية”؟

 يحتاج المرء في حياته كلها، وخاصة في مرحلة التعلم والاكتساب، إلى تلقي تعلمات أساسية تُشكل أدوات وآليات لفهم الحياة ومواجهة المشكلات والوضعيات المستجدة، كما تُعتبر هذه التعلماتُ معيارًا لفهم القيم والأخلاقيات التي تميز بين الخير والشر، بين الحق والباطل. قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ…} (هود: 116). تُفيد الآية الكريمة أن القيمَ الإنسانية التي أقرتها الشرائع السماوية ثابتةٌ يُساهِم في الحفاظ عليها “أولو بقيَّةٍ” ليظلَّ التوازن في الأرض والاستقامة والانضباط لقيم الجماعة وقواعدها المشتركة.
وعلى رأس هذه التعلمات الأساسية يأتي سؤالكم عن التربية الإسلامية.. إنها منهجٌ في بناء الإنسان وترويضه على التشبع بجملة من المعتقدات والسلوكيات والقيم الإيجابية التي تُؤطر مسار حياته الخاصة والعامة، ويعيش بها منسجمًا مع ذاته وجماعته، منفتحًا على الآخر، متعايشًا مع المخالِفِ، معتزًّا بقيمه وهويته وخصوصيته..
إن منهج التربية الإسلامية هو أوسعُ وأكملُ منهجٍ عرفه الفكر التربوي البشري؛ لِما يتضمنه من مكونات شاملة تغطي جوانب شخصية الطفل والمراهق المعرفية والمهارية والقيمية، عقيدةً وعبادةً وسلوكًا..

وما أهم مصادر التربية الإسلامية؟

كل فكر تربوي عتيق أو حداثي يتكئ ويستند على مرجعية نظرية أو أيديولوجية تؤطر معالمه الكبرى وأدبياته وسلوكيات أصحابه المنتمين لمنظومته. وطبيعي جدًّا أن تكون للتربية الإسلامية مصادرُ غنيةٌ تمتَحُ منها توجهاتها وتُؤطر المنتسبين إليها، نُجمِلها في : القرآن الكريم والحديث والسيرة النبوية وإجماع الأمة، وما خلَّفَه تراث الفكر التربوي العربي والإسلامي من مدونات قديمًا وحديثًا، مشرقًا ومغربًا.
ويجب ألا ننسى هنا أهمية مصدر أعراف الجماعة الواحدة، وقيم القواعد المشتركة التي لا تتنافى مع عقيدتنا وهويتنا.
ولا تفوتني الفرصة هنا أن أذَكِّرَ قراءنا الأكارم بكتابين معاصرين، الأول أطروحة دكتوراه باللغة الفرنسية للمرحوم محمد عبد الله دراز ناقشها بباريس سنة 1947م، تحت عنوان “La Morale Du Koran”، وترجمها المرحوم عبد الصبور شاهين تحت عنوان “دستور الأخلاق في القرآن” (816ص). والثاني كتاب وسمه صاحبه الأستاذ بيان الصفدي بـ”مختارات تراثية في الطفل والعلم والتعليم” (488ص). أنصح بهما المهتمين الشباب فيما يخص الفكر التربوي الإسلامي.

هل التربية الإسلامية تتجه للقلب فقط، أم تمزج بين الفكر والعاطفة والسلوك؟

الإنسان حيث كان، البدائي والمتحضر، مَنَحَه خالقه الباري تعالى ثلاث قدرات ثاوية في كل روح تتنفس: القدرة المعرفية، والقدرة الحسحركية (المهارية)، والقدرة الوجدانية(القيم).

لذا، فالتربية المنبنية على الخطاب الإسلامي الراشد لابد أن تتجه لبناء الإنسان قلبًا وفكرًا وعاطفةً وسلوكًا دونما تفريط في جانب. لذلك تكون مضامين دروس العقيدة والآداب الإسلامية صمّامَ أمان للتزكية وطب القلوب وترقيقها، ومظنَّةً للصالح من السلوك والرقي في التعامل. وعليه فالتربية الإسلامية كما ورد في سؤالكم ليست متوجهة فقط لطب القلوب.

بالنظر لواقعنا التربوي.. كيف ترونه في ضوء ذلك؟

الواقع التربوي في بلادنا العربية يختلف من منطقة لأخرى، وذلك لعدة اعتبارات قد نعود إليها في مناسبة سانحة، إلا أنه على العموم يبقى واقعًا مؤلمًا يسير نحو “الأمية الدينية” والتردي القيمي والانسلاخ من الهوية.

وحينما تعود للمناهج التربوية الرسمية تجدها حابلة بمقررات قيمة ومحتويات جادة وأنشطة جذابة، لكن واقعَ التنزيل وحسنَ التصريف وتأهيلَ المدرسات والمدرسين والطرقَ البيداغوجية والبنيةَ التحية والمحيطَ المدرسي ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، كلُّها إشكالات تُسائل الواقع التربوي الذي نجده كما ألمحنا يزداد هوة ومسافة من مصادر التربية الإسلامية الراشدة، مع الأسف الشديد.

ما أبرز المؤسسات التي يجب أن تهتم بالجوانب التربوية في المجتمع؟

إن “مؤسسة الأسرة” هي المهد الأول لصناعة وبناء المواطن الصالح والإنسان النافع لنفسه ووطنه والإنسانية؛ فمتى ما كانت مؤسسة الزواج/ الأسرة متجانسة متناغمة، وبُنِيَت على أسس متينة تُعمق قيم العقيدة والمحبة الصادقة والسلوكات المدنية الراقية، فإن الفعل التربوي المبكر والتنشئة الصالحة تُشكلان المصدر الطبيعي الأول للتربية الصحيحة.

و”المدرسة النظامية” هي المؤسسة الطبيعية الثانية التي تؤصل بطريقة بيداغوجية في المتعلمات والمتعلمين مفاهيم العقيدة ومعالم التربية والتزكية، ويجب أن تعمل مؤسسة “المدرسة النظامية” في انسجام تام مع مؤسسة “الأسرة” لتكمل الواحدة أنشطة الأخرى، وإلا فإن البناء سيتراكم بطريقة مضطربة ومتنافرة، وعندها تتعقد إشكالية التربية الصالحة..

وتبقى “مؤسسة الإعلام والفن” الرسمية والحرة من أهم المؤسسات التي يجب أن تولي الشأن التربوي والتنشئة الصالحة العنايةَ الكبرى والاهتمام الجدي بفنيات وتقنيات تجويد المنتوج التربوي الهادف والجذاب.

لكن مع الأسف الشديد، نلاحظ أن الإعلام والإنتاج الفني أصبح معولاً من معاول الإرباك والتشظي القيمي والأخلاقي، دون أن ننسى تسونامي التكنولوجيا الرقمية التي أصبح سحرها لا يدع بيتًا من طنجة إلى جاكارتا..!

وما دور الأسرة تحديدًا؟ ولماذا لا تقوم بدورها كما ينبغي؟

سبقت الإشارة إلى أن الأسرة لها دور محوري في التربية السليمة، دون أن نغفل المدرسة والإعلام والأقران والمحيط, إلا أن الشطر الثاني من السؤال “ولماذا لا تقوم بدورها كما ينبغي؟” سؤال ذكي وضع الأصبع على مصدر الداء، ألا وهو “الأسرة البيولوجية” التي أصبحت تلبي الحاجيات المادية للطفل وكمالياته الترفيهية- وهي مطلوبة وضرورية- ولا تُلقي بالاً ولا اهتمامًا بالمنظومة القيمية سواء داخل البيت أو خارجه.

إن استعمالكم في سؤالكم أداة الاستفهام “لماذا” يوجِّهُ ذكاءَ القارئ الكريم إلى جملة سلوكيات وممارسات جعلت الوالدين- مع الأسف- يستقلون من وظيفتهم التربوية المعقدة، ويهتمون فقط بالزي والألبسة والرتبة في الدراسة والفرجة والترفيه، دونما اعتبار لأولوية التحصين العَقَدي والجمالي والقيمي.

أصبحت عقدة “الأنا” متجذرة مع الأسف حتى في أسرنا.. هذا بالنسبة للأسر المثقفة أو أسر الطبقة الوسطى، أما الفئة العريضة من أسر الطبقة الدنيا فإنها أسوأ حالاً من سابقتها.

ما موقع الشباب من التربية الإسلامية، من حيث الواقع والطموح؟

إن شبابنا في الواقع ثمرة وصنيعة لهندسة تربوية وواقع محلي وكوني جد معقد، بين إكراهات ومصاعب الحياة وأحلام العيش الرفيه أو الهجرة للملاذ الآمن بديار الغرب، ورغم ذلك فإن شبابنا إذا وجد خطابًا تربويًّا راشدًا يُحببه في دينه وقيمه، فإنه سرعان ما يتفاعل ويستجيب، خاصة حينما يجد نفسه أمام مدرِّسين لمادة التربية الإسلامية يمتلكون مهارات تواصلية فعالة وطرق بيداغوجية ناجعة ويوظفون تقنيات التدريس تقوم على المشاركة والتفاعلية والممارسة الصفية الجذابة.
ليس هناك إشكال البتة بين الشباب والتربية الإسلامية، أو موقف سلبي منها؛ بالعكس، وجدنا الشباب يُشكل الفئة العريضة التي تتصدر المشهد عندما يتعلق الأمر بقضايا الأمة كقضية فلسطين أو المس بقانون الأسرة وقيمها الإسلامية.

ما أبرز التحديات التي تواجه التربية الإسلامية، لاسيما على مستوى الشباب؟

إن التربية الإسلامية بحق تمر بتحديات راهنية تزداد مع الوقت اتساعًا وتعقيدًا؛ فقد بدأنا نلاحظ أنها لا تحظى في بعض البلاد العربية بمُعامِل عددي يُكافئها ويُساويها مع المواد العلمية الأخرى، مما يجعل الطلبة لا يولونها اعتبارًا بسبب وزن المُعامِل الضعيف، مع الزهد والاستهتار بمادة التربية الإسلامية وعدم تدريسها بالشعب الجامعية.

هل مناهجنا التعليمية تؤدي الدور المنشود تربويًّا، أم تهتم بالمعلومات والجانب المعرفي فحسب؟

للأسف الشديد، حينما نقوم بعملية استقراء متبصر للمناهج التعليمية نجدها على مستوى الأطر المرجعية لمنظومة التربية والتكوين والبرامج والمقررات على مستوى عالٍ من التخطيط وهندسة المناهج التي تفي ببناء مُخرجات وكفايات مهمة، إلا أن واقع شبابنا وطلابنا على مستوى الكفاءة العلمية والمنظومة القيمية لا يعكس حقيقة هذه المناهج والجهد المبذول؛ وذلك مرتبط كما ألمحنا إلى إشكالات مرتبطة بالعصرنة وفتنة الرقمنة وطبيعة الساهرين على قطاع التربية والتعليم بوطننا العربي.

إن الإشكال إذن واضح بيِّنٌ؛ هناك هوة بين المناهج التربوية الرائدة ومُخرجات المنظومة والدور التربوي المنشود.

وما دور المعلم في ذلك؟

إن تأهيلَ أطرِ التربية والتعليم من الأوَّلي إلى العالي وهيئةِ الإدارة التربوية وإعدادَهم الإعداد الجيد لتدبير الشأن التعليمي والبحث العلمي التربوي، يعتبر من أساسيات بناء منظومة تربوية متكاملة ومنسجمة، تساهم في تخريج أفواج من طالباتنا وطلابنا على مستوى من الكفاءة والقيم. وكلما كان الضعف على مستوى الممارسة الصفية وتخليق أنشطة الحياة المدرسية، حصلنا على هذا المستوى من التردي والهبوط..

ومع ذلك لا يمكن للمعلم الجيد أن يحقق وحده نتائجَ تربويةً مشرفةً للمجتمع، دونما دعم وإسناد من مكونات الأسرة والإعلام والأقران. ومن الإجحاف وعدم الإنصاف تحميل المدرسات والمدرسين وحدَهم مسؤولية التعثر الدراسي والسلوك الأخلاقي للمتمدرسات والمتمدرسين. إن المسؤولية متقاسَمَة إلى حد كبير.

ما أهمية التربية الإسلامية في تحصين شبابنا ومجتمعاتنا، وفي إكسابهم القدرة على التعامل مع الأفكار الوافدة بندية؟

التربية الإسلامية منهاج متكامل يعالج، كما قلنا بدءًا، الجوانبَ الأساسية للإنسان، وتجعل طلابنا- إذا قُدمت على أحسن وجه- على قدر من الوعي الديني والتمثل الخلقي والاعتزاز الهوياتي الذي يُحصنهم من الذوبان والاغترار بزيف الأفكار والتطلعات الوهمية.

كما أن الثقافة الإسلامية الشاملة لدى الناشئة والشباب تجعلهم قادرين على التفاعل مع الأفكار المغايِرة بعِلمية ونِدِّية تحفظ للآخَر حقه في الاعتقاد والحرية، وتعصمهم من الارتماء في أحضان التطرف من أي اتجاه كان. لأن البناء الراشد المستند لقيم الوحي وسنن الإصلاح والتغيير بوعي ونضج كبيرين، يُثمر وسطيةً واستقامةً وإبداعًا يتناغم مع سمفونيةِ وإيقاعِ جمالية البيئة والوطن والمجتمع..