كثير هم من ينتمون إلى عالم الفقه والأصول ويحتكرون منابره بتكرار قواعد وتعريفات يلوكونها لوكا ويتصدورن بها المجالس تصدرا ، بل يعتبرون أنفسهم ورثة بالدرجة الأولى ولا أحد يمكن له منازلتهم أو مقارنتهم.

كما أن الغالب على الدراسات المتعلقة بالفقه والأصول تميل غالبا إلى استهلاك ما تركه الفقهاء الكبار في الأمة وخاصة أصحاب المذاهب الأربعة ولا يتعدونها إلى الخامسة.

وكما يرى ابن خلدون في المقدمة، وهو ممن يرفض قوله عند الكثير منهم، بأن علم الأصول حتى عصره قد مطط تمطيطا وتحول من بساطة ومجرد أداة ومنهج للتحصيل والتوظيف، كما وضعه الشافعي ، إلى تفلسف لغوي وتعمق فضولي لا طائل وراءه عند التطبيق ومواجهة الأزمات والنوازل !. والدليل هو ما يتخبط فيه هؤلاء من فتاوى باهتة لخدمة مصالح وأجندات سياسية وأيديولوجية قد تضر حتى بمصالح أوطانهم ومجتمعهم ولا أبالي.

وهذا كلام فيه نوع قريب من الصحة حينما نرى هذا الكم الهائل من المتراكمات اللفظية والتعقيد المصطلحي الأسطواني، المحفوظ عن ظهر قلب، وكأنه رياضيات وما هو برياضيات وفلكيات وما هو بفلكيات بل يكاد يصبح فذلكات لا غير .

ولكي لا أنزلق فأرشق بما لا يليق فسأدخل في الموضوع مباشرة، وذلك بالحديث عن موقف شخصية علمية مرموقة ، ومرشوقة هي نفسها، في عالم الفقه والتصوف وهو الشيخ عبد الوهاب الشعراني المشهور بكتاب “اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر والأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية” … لكن من الكتب التي لم يركز عليها ولم تول حقها من الدراسة والتمحيص نجد هذا الكتاب الرائع والقاصد والغائي :”كشف الغمة” والذي في نظري المتواضع قد يعد من أعظم الكتب الإصلاحية والتصحيحية التي لم يستطع نيل مراقيها ومراميها أي فقيه ولا أصولي متمذهب ومؤدلج سواء في الماضي أو الحاضر المعاصر !.

فالكتاب عنوانه قصير ودقيق ونفسي بالدرجة الأولى ،إذ الحزن قد يمرِض ويسقم ولكن الغم كما ذهب إليه علماء الأخلاق والنفس في الفكر الإسلامي قد يقتل !. ومن ثم فطالما الغم حاضر في المجتمع فإنه يكون أقرب إلى الموت والقتل والتقاتل.وهذا ناتج في الغالب عن التعصب المذهبي والطائفي والإيديولوجي الضيق ،مع انسداد الأفق الفكري عن حل المعضلات ولم الشمل بين المتفرقات وتسكين النفوس نحو التعايش والتواصل السليم !.

كما أن الكتاب في معظمه يبدو وكأنه مجرد كتاب حديث جمّاع بين الصحيح والحسن والضعيف ،كما أنه لم يعتمد وبشكل متعمد سرد الأسانيد وذكر الرواة ومذاهبهم.لكنه في نفس الوقت قد لمح منذ المقدمة إلى الكتب الرئيسية المعتمدة لديه مما يمكن اعتباره صحيحا ومقبولا عند الفقهاء والأصوليين كمرجع للتفقه والاستنباط وتحقيق أو تخريج المناط.

والسبب في هذا منهجي بالدرجة الأولى ،كما أنه غائي وقاصد للجمع بين مصادر الأدلة جنبا إلى جنب، بالرغم مما قد تبدو في بعض الأحيان وكأنها متناقضة أو ناسخة ومنسوخة أو مقيدة لمطلق أو مخصصة لعام أو مرخصة في تضاد مع عزيمة وما إلى ذلك .

يرى الشعراني أن المنهج الذي سلكه قد كان بسبب فقهاء الفتن والاحتكار المذهبي والتسلط على عقول الناس وإرهابهم بسطوة الفقه ومبرر ضرورة أخذ العلم عن العلماء ، لكن ليس كل العلماء وإنما من لهم الولاية عليهم بنوع ولاية.

وأمام هذا التناقض القائم بين فقهاء هذا الحي أو ذاك يقف العامة حائرين مغمومين لا يدرون ما ومن يقلدون. إذ كلما قلدوا جانبا بدّعهم وكفرهم جانب آخر وحكم عليهم بالجهل والقصور والضلال وما إلى ذلك من الإسقاطات .

فبقي أن العامة إما أن يتبعوا كل ناعق أو يتفرغوا كلهم للعلم الفقهي والفتاوى ويتركوا أعمالهم فتهلك الأمة ويجوع العالم والجاهل وتقف عجلة الحياة !. حتى قالوا كما يرويه حكاية عنهم: “نحن لا نتفرغ لذلك مع السعي على عيالنا وعلى وفاء ديوننا وعلى توفية ما علينا من المظالم ولا تطيب نفوسنا أن نجلس في مدرسة أو جامع نأكل أوساخ الناس وصدقاتهم كالفقهاء.فإنا إذا تركنا حرفتنا احتجنا إلى الأكل من ذلك ضرورة وقد جربنا الأكل من مال الأوقاف فوجدناه يظلم قلوبنا،ثم بتقدير جلوسنا عن التكسب واشتغالنا كما اشتغلوا فما نحن على شريعة معصومة عن الخطأ لأن غاية ما استنبطه العلماء الظن لا اليقين” .

من هذا التصور المتكرر، قد أصبح العلم الشرعي يعاني من أزمة ثقة وعدم تسليم وتشكك في الأحكام بسبب تضارب الفتاوى بين الفقهاء الصغار أو الصُّغيِّرين على حد تعبير المصريين. سبق وبينت حالهم في كتابي النقدي العارم :”البطالة الفكرية في مجتمعنا “والذي لم ينتبه لنصائحه أحد من المسؤولين حتى وقعنا فيما نحن الآن فيه واقعون !.

من هنا كان المنطلق للشعراني من أجل حل هذه المعضلة وذلك بالاعتماد على مبدأ علمي وأخلاقي يحفظ للعلماء حرمتهم ولا يسعى إلى ضربهم بعضهم ببعض .فهو قد اعتمد الأحاديث الواردة في الكتب الستة وزيادة مما هو معتبر عند المجتهدين من الأمة .في حين قد بوب الأبواب على ترتيب الفقه لا ترتيب الحديث وذلك لكي يتمكن من عرض الأحاديث إلى جانب بعضها البعض رواية ودراية ،تماما كما وظفها الفقهاء في استدلالاتهم،هذا مع الاختصار والاقتصار ولا يذكر”من كل حديث إلا محل الاستدلال المطلق للترجمة ،فأقول:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا أو يقول كذا أو يأمر بكذا أو ينهى عن كذا أو يرخص في كذا أو يشدد،ومرادي وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة ثم يكون ذلك الأمر قد تكرر وقوعه منه صلى الله عليه وسلم وقد لا يكون تكرار ولا أذكر القصة التي سيق فيها الحديث إلا في كذا….

وهذا النهج كان يهدف به إلى سد الباب أمام عمليتين يمكن استغلالهما للعب بالفتاوى والأحكام وهما :التأويل الاعتباطي الذي قد يلوى به عنق النص فتسقط عليه أحكام ذاتية لا غير .

أما العملية الثانية فهي النسخ ، ولكن ليس كل نسخ بحيث يقر النسخ النصي ، أي نسخ النص بالنص صراحة ، ويرفض النسخ التاريخي قبليا كان أم بعديا ، وذلك من باعث أخلاقي وذوقي أدبي كما عبر عنه: “ولم أمل فيه إلى تأويل حديث ولا إلى النسخ بالتاريخ كما يفعله بعضهم أدبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقيد كلامه فيما علمه عالم دون آخر وأن ينسخ غيره كلامه،إذ لا ناسخ لكلامه صلى الله عليه وسلم إلا هو كقوله: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وكقوله كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فادخروا وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الحنتم والنقير فانتبذوا غير أن لاتشربوا مسكرا”.

وهذا الموقف في نظري من أهم القواعد لفتح باب التجديد والاجتهاد وذلك لأنه يترك المجال لنصين بالعمل في آن واحد ،بحسب المناسبة والمقتضى مقتضى الحال والمقال والزمان والمكان !.

كما أنه على مظهر التناقض والتداخل بين طرفي الإفراط والتفريط سيبني منهجه ويؤسسه على ميزان علمي ،وسيعلن أنه لم يسبق إليه في سعي لحل مشكلة الخلاف الفقهي والتضارب في الفتوى حلا جذريا ،قد نعود إلى إتمامه وعرضه فيما بعد إن شاء الله تعالى ومنه نرجو الرشاد والسداد.