قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ} [المجادلة: 11] هذه الآية تحدد درجة العالم الرباني، وهي تعد حجة واضحة على أهمية العلم وفضل طلبه، فقد أعطت أهل العلم درجة رفيعة، ومكانة منيفة، ونوهت إلى تفوق درجتهم على مكانة الإيمان المجرد عند المقارنة، بل يفهم من سياق الآية أن الدرجات التي حظي بها أهل العلم كانت جزاء وفاقا لما يبذلونه في النظر والدراسة والعمل بالعلم والسعي في تحقيق مرضاة الله، إذ اجتمع لدي العالم أمران على حد سواء الإيمان بالله (العبادة) والعلم الباعث على العمل.
ووجه المقارنة في هذه الآية أن صنف أهل العلم من جملة (الذين آمنوا) ويدخلون في زمرة القائمين بالعبادة الخالصة لله تعالى، لكن جاءت الآية تخصصهم من جملة المؤمنين بمضاعفة الأجور، فهم أرفع درجة، وذلك تعويض عن الوصف الزائد على مجرد امتثال الأمر الإلهي.
ففي حين يقوم العابد الزاهد بامتثال الأوامر واحتناب النواهي بمجرد ثبوت نصوصها، فان درجة العالم الرباني يأتي ليجتهد ويتقصد إلى فهم مقومات العبادة، ويتعرف على المقاصد والحِكم،، فامتثال الأمر عنده أقوم وآكد، لأنه سعى واطلع على الأدلة التي ترافق الطاعات، فيكون قيامه بالعمل أقوى وانتظامه أدوم من العامة.
ولو اعترضت العالم شبهاتُ نظرياتِ الملحدين ومباحث الجاحدين، فإنه بالعلم والعمل يدرك خطرها ويرفض دعوتها، ولا يساق إليها مثل فرسٍ طوع العنان! و العالم الموصوف بهذه الخصال يتفوق على العابد الذي يترهب ويتزهد عن جهل وضيق البصيرة.
وقوله تعالى (.. درجات) جاءت نكرة لإفادة كثرة أنواع الأجر الذي بناله العالم الرباني، والدرجات هنا حسب ما سنورده من كلام المفسرين معناها: الأجر والثواب والمكانة عند الله تعالى.
– ومن هذه الدرجات: الاستغفار الذي يناله العالم من الله تعالى وملائكته وما في السماوات والأرض بسبب العلم (الترمذي وهو حسن صحيح).
ب- أن العلماء ورثة الأنبياء
جـ – بسط الأجنحة من الملائكة للعالم ورعاية شؤونه ..
تأويل المفسرين
– ابن الجوزي: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي: يرفعهم بإيمانهم على من ليس بمنزلتهم من أهل الإيمان وَيرفع الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على مَن ليس بعالم.
وهل هذا الرفع في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنة.
والثاني: أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدِّين والعلم.
وكان ابن مسعود يقول: أيها الناس افهموا هذه الآية ولْتُرغِّبْكم في العلم، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات.
– البيضاوي: (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ويرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة، ولذلك يقتدى بالعالم في أفعاله ولا يقتدى بغيره. وفي الحديث «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» .
– القرطبي: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. وقال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية. والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم «3» على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم (درجات) أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به..
ثم قال: بينٌ في هذه الآية أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان لا بالسبق إلى صدور المجالس.. الخ.
– ابن عاشور: في قوله «الذين أوتوا العلم منهم» بين احتمالين لسبب هذا التخصيص لأهل العلم في الأمر بالتوسع أو القيام من المجالس:
أ – لأن غشيان مجلس الرسول ﷺ إنما هو لطلب العلم من مواعظه وتعليمه، أي والذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون لأن الذين أوتوا العلم قد يكون الأمر لأحد بالقيام من المجلس لأجلهم، أي لأجل إجلاسهم، وذلك رفع لدرجاتهم في الدنيا، ولأنهم إذا تمكنوا من مجلس الرسول ﷺ كان تمكنهم أجمع للفهم وأنفى للملل…
ب – يجوز أن بعضا من الذين أمروا بالقيام كان من أهل العلم فأقيم لأجل رجحان فضيلة البدريين عليه، فيكون في الوعد للذي أقيم من مكانه برفع الدرجات استئناس له بأن الله رافع درجته.