قال تعالى : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } الرعد : 17

يسير الإنسان في هذه الحياة متخبطا في دروبها، يغشى بحار الظلمات أحيانا، ويحن إلى النور حينا آخر، يخيم الضباب الكثيف على زجاج منظاره فلا يرى أين المسير، ينظر في السماء فلا يرى نجما يهتدي به في ظلمات البر والبحر، يغشى مسالك الردى، ومنزلقات الانحطاط يختار من بين خيارات الحياة ما يضره وما لا ينفعه، أو ما يجلب النفع العاجل له، والضر الآجل له ولمن حوله، يضع ثقته ويعطي إيمانه لمن لا يملك له نفعا ولا ضرا، معطيا ظهره لمن بيده النفع والضر، يتعجل منافع متوهمة في الدنيا، متغافلا عن مهاوي الردى والضر الكامل في الآخرة.

وفي محاولة منا لأن نعثر على بوصلة الطريق وعلاماته الإرشادية سألنا القرآن الكريم والسنة المطهرة، باحثين عما ينفعنا ولا يضرنا في طريقنا هذا الذي ينتهي مع آخر نفس من أنفاسنا في الحياة ليبدأ بنا طورا آخر لا ينفع فيه نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا..

ما لا ينفع يوم القيامة

( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ورد لفظ النفع بمشتقاته في 49 آية من آيات القرآن الكريم، في 32 سورة من سوره، وفي 18 صيغة اشتقاق، ومن حيث المعنى والسياق جاءت الآيات لتنفي صفة النفع يوم القيامة ويوم يأتي بعض آيات الله الكبرى عن عدة أمور لا تنفع أحدا من خلق الله وبخاصة من كفر به، وهي على النحو التالي:

1 – الشفاعة إلا لمن أذن له:

– يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا (109 سورة طه)
– ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (23 سورة سبأ)
– ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون (164 سورة البقرة)
– فما تنفعهم شفاعة الشافعين (48 سورة المدثر)

2- المعذرة.. لا تنفع الظالمين:

– فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون (57 سورة الروم)
– يوم لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار (52 سورة غافر)

3- الإيمان بعد فوات الأوان:
– يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل (158 سورة الأنعام)
– قل يوم الفتح لا ينفع الذين ظلموا إيمانهم ولا هم ينظرون (29 سورة السجدة)
– فلم ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا (85 سورة غافر)

4- الاشتراك في العذاب:

– ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39 سورة الزخرف)
-بعضهم لبعض (الإنس والجن لا ينفع بعضهم بعضا يوم القيامة ولا ينفع الظالمون بعضهم بعضا)
– فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا (42 سورة سبأ)
– الأرحام والأولاد أو المال والبنون (لا ينفع أحدا من الناس.. كل الناس)
– لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم (3 سورة الممتحنة)
– ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون (88 سورة الشعراء)

أما الأمر الإيجابي الذي ذكر في القرآن مما ينفع الإنسان يوم القيامة إضافة إلى إيمانه بالله، فهو صدقه مع الله، قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم (119 سورة المائدة)

الإيمان واعتقاد النفع والضر

يأتي قسم كبير من الآيات التي ورد فيها لفظ النفع ومشتقاته ليتحدث حول قضية الاعتقاد وارتباطها بمن يملك النفع والضر، فهي تنعي على المشركين عبادتهم وتوجههم بالدعاء لمن لا ينفع ولا يضر ولمن لا يملك ذلك أصلا:
– ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك (106 سورة يونس)
– قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم (66 سورة الأنبياء)
– قل أندعوا من دون الله ما ينفعنا ولا يضرنا (71 سورة الأنعام)
– يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه (12 سورة الحج)
– وبعبدون من دون الله ما يضرهم ولا ينفعهم (18 سورة يونس)
– ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم (55 سورة الفرقان)
– قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون (73 سورة الشعراء)
– قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا (76 سورة المائدة)
– قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله (188 سورة الأعراف)
– قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله (49 سورة يونس)
-قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا (16 سورة الرعد)
– أفلا يرون ألا يرجع لهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (89 سورة طه)
– ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا (3 سورة الفرقان)
– قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا (11 سورة الفتح)
– يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير (13 سورة الحج)

ومن مجمل الآيات السابقة نستفيد أن على الإنسان إن كان عاقلا أن يلتمس فيمن يعبده ومن ثم فيمن يدعوه ويرجو إجابته أن يكون ممن يملكون النفع والضر على وجه الحقيقة، وأنه ما من أحد ولا شيء على وجه الأرض يملك للإنسان نفعا أو ضرا إلا الله سبحانه وتعالى، وإذا كان هناك من أحد أو شيء يمكن أن يضر الإنسان أو ينفعه فإنه لا يملك سلطة النفع والضر إلا بما ملكه الله القادر على أن ينزع منه تلك الخاصية أو القدرة، فليس هناك إنسان حتى ولو كان نبيا مرسلا يملك النفع أو الضر لنفسه أو لغيره، بل هي ملك خالص لله المستحق وحده للعبادة والدعاء وهو مخ العبادة.

ابحث عن المنفعة

تقدم باقي الآيات منافع على الإنسان أن ينتفع بها سواء أكان ما يتحقق منها للإنسان في دنياه أم آخرته، فمما ينتفع به الإنسان المؤمن من دنياه لآخرته:
– فذكر إن نفعت الذكرى (9 سورة الأعلى)
– فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس (98 سورة يونس)
– وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (55 سورة الذاريات)
– وما يدريك لعله يزكي، أو يذكر فتنفعه الذكرى (4 سورة عبس)
– ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم (34 سورة هود)

ومن الآيات نتبين أن الذكرى تنفع المؤمنين، الذاكرين والمذكرين والمتذكرين، وأن النصح لا ينفع لمن سلك طريق الغواية وتنكب طريق الصلاح ولم يرد لنفسه الهداية، فأراد الله له الغواية، وأن الإيمان هو ما ينفع الإنسان في دنياه وآخرته، وأن ذلك الإيمان هو مسئولية تضامنية للقرى وأهلها فمما لا شك فيه أن بيئة الإيمان تعين على الإيمان.

المنفعة للجميع:

– والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس (164 سورة البقرة)
– وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (17 سورة الرعد)
– قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل (16 سورة الأحزاب)
– أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا (21 سورة يوسف)
– لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا (9 سورة القصص)
– ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم (102 سورة البقرة)
– آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا (11 سورة النساء)
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما (219 سورة البقرة)
– والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5 سورة النحل)
– ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات (28 سورة الحج)
– لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق (33 سورة الحج)
– ولكم فيها منافع كثيرة ومنا تأكلون (21 سورة المؤمنون)
– ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (73 سورة يس)
– ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم (80 سورة غافر)
– وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس (25 سورة الحديد)

والمتأمل للآيات يجد أنها تذكر أمثلة على أنماط من المنافع، كوسائل المواصلات من فلك، والإنسان ولدا أو خادما، والمال الذي يرثه الإنسان عن غيره، والأنعام سواء اتخذت للدفء أو كوسيلة مواصلات أو للأكل أو الشرب، كما ذكر الله الحديد عنوانا على صنف المعادن والركاز، وسائر الأشياء كالمشارب والعادات التي وضع الله لنا قاعدة لنعرف بها حلها من حرمتها: فإن غلبت منافعها فهي حلال، وإن غلب إثمها فهي حرام.

كما ذكر الله السلوكيات كالتعلم ونعى على من يتعلم ما يضره وما لا ينفعه، كما ذكر المولى سبحانه من الأزمان زمن الحج وهي جماع أنواع العبادات وجعل من أغراضه أن يشهد المسلمون فيه منافع لهم.. كل أنواع المنافع، وكسنة عامة يذكر الله أن “ما ينفع الناس هو الذي يمكث في الأرض”، أما ما لا يستطيع للإنسان أن ينتفع به وذكره المولى فهو الفرار من الموت أو القتل.

خير الناس.. أنفعهم للناس

تأتي سنة رسول الله فيما يخص المنفعة ترجمانا للقرآن:
– فمن حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي: “…واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا قد كتبه لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف”
– ومن حديث القضاعي عن جابر والذي صححه السيوطي: “..خير الناس أنفعهم للناس
– ومن حديث أبي هريرة الذي أورده السيوطي في زيادة الجامع الصغير: “..احرص على ما ينفعك..”
– وعن ابن عمر رضي الله عنهما: إن مثل المؤمن كمثل النخلة إن صاحبته نفعك وإن شاورته نفعك وإن جالسته نفعك وكل شأنه منافع وكذلك النخلة كل شأنها منافع.
وفي هذه الأحاديث ما يكفي ففيها تأكيد على نفي النفع والضر عما سوى الله، وهو اليقين الذي ينبغي أن يملأ جوانح المؤمن، كما ينبغي على المؤمن العاقل أن يكون حريصا في كل شأنه على ما ينفع نفسه وغيره في دينه ودنياه وآخرته، حتى يكون من أنفع الناس للناس، وحتى يكون مثل النخلة كلها منافع.