يعد المفكر من أعلى درجات سلم العلم، فالمفكر عادة ما يحيط بأصول القضايا، ويتسم فكره بالنظر الثاقب والرأي الصائب، ويعد المفكر مرجعا لطوائف المجتمع في كثير من نواحي الحياة، بل إن رصدا لإخفاقات كثير من الحركات الإصلاحية اليوم مردها إلى خلوها من المفكرين، والانتقال من درجة ” المفكر”، إلى درجة المثقف، وإن ادعى أنه من المفكرين.

بل إن المفكر – ربما كان أوسع نظرا من الفقيه، إذ الفقيه ينظر في الحكم الشرعي للأحكام الجزئية، والمفكر ينظر القضايا الكلية، ولا يعني هذا التقليل من دور الفقيه، لكل بالنظر إلى الوظيفة المجتمعية فإن المفكر اليوم لابد أن يكون ملما بكثير من أصول المعارف بما فيها المعارف الشرعية..

المفكر الفلسفي

على أن لقب ( المفكر) اليوم يغلب عليه الجانب الفلسفي، فالمتعمق في الفلسفة والمنطق هو من يحوز لقب (المفكر)، وعندي أن الاقتصار على الفلسفة والمنطق منقصة في تكوين المفكر، وأن صناعة المفكر الذي يقف عند حدود الفلسفة الكلامية وعلم المنطق وربما علم الكلام أخرج لنا تفكيرا جزئيا وليس تفكيرا كليا، وأصاب بعض من ينتمون إلى هذه الطائفة ويطلق عليه لقب (مفكر) نوعا من الانحدار الفكري أحيانا، خاصة أن التكوين المعرفي لكثير منهم مال نحو المعارف الغربية وليست المعارف الإسلامية، ولست أعني هنا بالمعارف الإسلامية انحصارها في المعارف الشرعية من العقيدة والفقه والأصول والحديث والتفسير فحسب، بل هي شاملة لجملة المعرفة الإسلامية بعمومها.

الوحي أساس صناعة المفكر

وأول عطب في كثير من المفكرين اليوم أن صلتهم بالقرآن عليلة، فبعضهم لا يحسن قراءة القرآن، وإن أحسن قراءته، فمنهج النظر والاستدلال والفهم والاستنباط من القرآن عليل، بل يكاد أحيانا يصل إلى حد الشطط والانحراف في التفسير والتأويل، وكانت من نتيجة ذلك أن خرج علينا من يفسر القرآن بلا منهج ولا أصل، ولكن بمطلق العقل الناقص.

إن معين التكوين عند كثير من المفكرين اليوم هو معين لا صلة له بثقافتنا العربية ومعارفنا الإسلامية، وهو رغم هذا يتكلم في قضايا ويناقش ما يتعلق بمجتمعاتنا، وهذا لو كان في الغرب يناقش قضاياهم لكان حسنا، على أن من أراد اللحوق بركب المفكرين في مجتمعاتنا الإسلامية فعليه أن يتكون معرفيا بناء على الحقل الذي يتخصص فيه وهو المجتمع المسلم بما له من خصوصية، وما امتاز به من أعراف وتقاليد،  ولا مانع من الاستفادة من معارف الآخرين، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها…

خريطة صناعة المفكر

على أن صناعة المفكر اليوم تحتاج إلى منهجية أصولية كلية من حيث النظر والتأسيس، ومن حيث التكوين والتدريب، ومن حيث الممارسة والإنتاج، فإذا أردنا أن نضع خريطة لصناعة المفكر، فإن تلك الخريطة يجب أن تؤسس أولا على معارف الوحي، من الكتاب والسنة، فكل من اشتغل بالفكر الإسلامي ولم ينهل من معين الكتاب والسنة فلا يمكن له أن يرتقي إلى صناعة الفكر في مجتمعاتنا، وإن حصل، فإن نتاجه الفكري سيكون مشوبا مختلا، وكلما كانت صلة المفكر بالقرآن قوية، كان أقرب للصواب وأكثر إدراكا للقضايا المنهجية، وأوعى للفهم والتفهيم، والحل والتحليل..

علوم صناعة المفكر

ثم بعد معارف الوحي من القرآن والسنة يجب على من يسلك سبيل (المفكر) أن يدرس جملة من المعارف التي توصله إلى مناط التفكير السليم، وهذا لا يتأتى إلا بدراسة ثلاث مجموعات من المعارف، وهي:

المجموعة الأولى: المعارف الإسلامية، ونقصد بها منهجيات وأصول العقيدة وأصول الفقه وعلم المقاصد الشرعية، وعلم القواعد الفقهية وعلم الجدل الأصولي ودراسة أصول الحديث بعلومه المتنوعة خاصة علم العلل وعلم أسباب الورود، وكذلك جملة علوم القرآن التي تبين عن جوهره ومقصده وعلى رأسها علم التفسير وعلم أسباب النزول.

المجموعة الثانية: أصول ومنهجيات العلوم الاجتماعية، التي تعنى بدراسة المجتمع، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم السياسة، وعلم الاقتصاد، وغيرها من العلوم الاجتماعية.

المجموعة الثالثة: أصول ومنهجيات العلوم الإنسانية، وعلى رأسها علم التاريخ، وكذلك علوم العربية من علم اللسان وعلم اللغة وعلم القواعد وعلوم الأدب والشعر والنقد والبلاغة..

دراسة المنهجيات لا الجزئيات

على أن دراسة هذه العلوم لا يقصد بها التخصص الدقيق، كما لا تعني دراسة مباحث العلوم وفروعه، ولكن المقصود بها دراسة أصول تلك العلوم.

كما أن تلك الدراسة يجب أن تكون باستخراج أصول كل علم من تلك العلوم، فنستخرج أصول العقيدة، وأصول التفسير، وأصول علوم القرآن، وأصول الحديث بالإضافة إلى أصول الفقه،  ثم نستخرج من الجميع أصولا للعلوم الشرعية، وكذلك الشأن في العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية نستخرج منها أصول كل علم، ثم نستخرج جملة أصول العلوم الاجتماعية، وكذلك جملة أصول العلوم الإنسانية، ثم نستخرج من أصول المجموعات الثلاثة (الشرعية والاجتماعية والإنسانية) أصول التفكير البشري، وبالتدرب على تلك الأصول، يستطيع الباحث أن يصل إلى صناعة المفكر، مع استصحاب أصول التفكير من خلال الكتاب والسنة أولا..

التدريب ثم الممارسة

ثم تأتي مرحلة التدريب على تلك المنهجيات، وبعدها تأتي مرحلة الممارسة، والتي تكون رادفا قويا لتكوين المفكر المسلم، وكلما شارك الباحث في القضايا؛ كلما نضحت ملكة التفكير عنده، فإن وصلنا إلى هذه الدرجة من صناعة المفكر؛ استطعنا حل كثير من مشاكلنا بناء على منهجيات أصولية وكلية تعصم – غالبا- من الزلل، وتساهم في البناء الحضاري لتلك الأمة، من خلال معارف الوحي والمعارف الشرعية والاجتماعية والإنسانية، وهي صناعة صعبة ثقيلة، لكنه لا مناص من إيجادها بعد فقد البوصلة عند كثير ممن يلبسون عباءة ( المفكر)، وما هم بمفكرين.

وإن ما تمر به الأمة اليوم من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، لابد أن تواجه أولا من خلال الجانب الفكري، الذي يكشف الطريق للناس، ويريهم حقيقة الأمر بقراءة واعية، ثم يصف لهم منهج الخروج من الأزمة، إلى إيجاد الحلول، والانطلاق من المعالجة إلى الوقاية، ومن رد الفعل إلى صناعة القرار، ومن التصلب عند الماضي إلى الاستفادة منه مع إدراك الواقع واستشراف المستقبلة، وتلك صناعة عمادها المفكرون الذين ينطلقون من معارف الوحي ثم معارف العلوم، وإن الناظر إلى غير قومنا من الشعوب الأخرى ليرى أنهم ينشؤون مراكز البحث ويصنعون المفكرين لإدارة الدولة والعلاقات الدولية، بل وإدارة العالم، لكن بني جلدتنا يديرون الأمور إما بتخبط أو عشوائية، أو بتسلط، وهم أبناء الوحي، لكن صلتهم بالوحي مقطوعة، وبالواقع ضعيفة، وبالمستقبل أضعف، على أن في الأمة طاقات عظمى تحتاج إلى من يرشدها نحو تفجير الطاقات الكامنة، واستثمار العقول المعطلة، واستخراج الدرر الكامنة في النفوس والعقول، وطريق ذلك: (صناعة المفكر) الإنسان، الذي يرتبط بالأصل ويتصل بالعصر، وينهل من أصول الوحي والمعارف، ويساهم في بناء الحضارة بما يليق بحضارة الإسلام، وبما يخدم الإنسانية جمعاء، وتلك من عموم الرحمة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم، وأبان رب العزة عن الوظيفة الرئيسة له بقوله سبحانه: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)..