شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك التي جرت في العام التاسع من الهجرة ثلاثون ألفا وجمع معه في حجة الوداع في العام العاشر أكثر من مائة ألف، فهل كل هؤلاء يعدون من الصحابة الذين أثنى الله عليهم ووصفهم بكل جميل؟، يقينا فإن كل هؤلاء رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان كثير منهم لم يجالسه أو يصاحبه على النحو الذي يتبادر إلى الذهن، فهل يدخلون جميعا في تعريف من هو الصحابي وصف العلماء لهم بالصحابة؟

الصحابي بين الفقهاء والمحدثين

العلماء فريقان في تعريف الصحابي وتوصيفه بين التوسعة والتضييق، فأهل الحديث يعرفون الصحابي بأنه: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، وآمن به بعد بعثته حال حياته، ومات على الإيمان.

ويثير هذا التعريف إشكالات كثيرة أولها استيعابه لفئات وشرائح مختلفة ومتفاوتة، فبناء على هذا التعريف يدخل في مفهوم “الصحابي” من لقي النبي صلى الله عليه وسلم من كبار الصحابة المعروفين، أو من قصرت صحبته ولم يمكث مع النبي إلا قليلا مثل: ضمام بن ثعلبة الذي بعثه بنو سعد إلى الرسول فأسلم، ثم رجع إلى قومه فأسلموا على يديه، ويستوي كذلك من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يجالسه كالأعراب الذي شهدوا معه حجة الوداع.

ويدخل في تعريف الصحابي هذا من روى عن النبي آلاف الأحاديث كأبي هريرة وابن عمر وابن عباس، ومن روى حديثا واحدا فقط أو حديثين أو من لم يرو شيئا أصلا، ومن شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة أو غزوتين أو أكثر، ومن لم يغز مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل حسان بن ثابت الشاعر المعروف.. وكان من العلماء من اشترط في الصحبة أن يغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة أو غزوتين.

ويشمل أيضا الذكور والإناث وغير البالغين منهما، سواء من كان منهم مميزا مثل: الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير، والثلاثة كانوا أطفالا صغارا لم يتجاوزوا التاسعة حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، أو من كان غير مميز مثل محمد بن أبي بكر الصديق الذي ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام.

ولا يدخل ضمن الصحابة من كان معاصرا للنبي صلى الله عليه وسلم وآمن به لكنه لم يلتق به مثل النجاشي ملك الحبشة الذي لم ير النبي صلى الله عليه وسلم أو التقى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على كفره، ثم آمن به بعد وفاته.

أما الفريق الآخر وهم الفقهاء والأصوليون فيعرفون الصحابي بأنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به بعد بعثته حال حياته وطالت صحبته وكثر لقاؤه به على سبيل التبع له والأخذ عنه وإن لم يرو عنه شيئا ومات على الإيمان.

ويلاحظ أن هذا التعريف يتشدد في معنى الصحبة ويقيدها بقوله “وطالت الصحبة” وقد اختلف العلماء في المدة التي يقال فيها طالت صحبته، فمنهم من حددها بستة أشهر فأكثر أو سنة فأكثر، وهو ما يثير إشكالات أخرى مختلفة عن تعريف المحدثين للصحبة، فهذا التحديد الزمني يخرج عددا من الصحابة الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبوه مدة أقل من ذلك، وليس هناك دليل معتبر على تحديد هذه المدة. والراجح أن الصحبة لا تحدد بمقدار، وإنما هي المدة التي تعد في العرف صحبة يكون فيها الشخص ملازما للنبي آخذا عنه.

وهذا التعريف يخرج عشرات الآلاف ممن يعتبرهم أهل الحديث من الصحابة، حيث يعدون أن مجرد الرؤية كاف في إطلاق الصحبة لشرف الرسول وجلال قدره وقدر من رآه من المسلمين.

وأيا ما كان الأمر فإن كتب التراجم التي اختصت بتراجم الصحابة لم تحتفظ لنا إلا بنحو العُشر من عدد الصحابة الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما سجله ابن حجر في كتابه “الإصابة في تمييز الصحابة”.

إثبات الصحبة

وقد اعتمد العلماء في إثبات الصحبة على طرق مختلفة وقواعد ضابطة، حتى لا يتسرب على الصحابة من ليس منهم، ومن هذه الطرق: الأخبار المتواترة، مثلما هو الحال مع الخلفاء الأربعة وكبار صحابة الرسول مثل سعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف – من الصحابة، أو الاستفاضة والشهرة،  كما في صحبة أبي هريرة وعبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري ومن على شاكلتهم، فلا يشك مسلم في صحة ثبوت الصحبة لهؤلاء الصحابة الكرام.

ومن طرق إثبات الصحبة أن يكون الرجل ممن تولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم غزوة من غزواته مثل عبد الله بن جحش وعبيدة بن الحارث، أو ممن ولاه أحد الخلفاء الراشدين إمارة أحد الجيوش في حروب الردة والفتوحات مثل شرحبيل بن حسنة وأبي عبيد بن مسعود؛ لأنهم لم يكونوا يولون إلا الصحابة.

الصحابة طبقات

ومن العلماء من نظر إلى الصحابة على أنهم طبقة واحدة، وحجتهم أن للصحبة من الشرف العظيم والمكانة الكبيرة ما يقطع كل اعتبار آخر كالسابقة في دخول الإسلام والبذل والعطاء. ومنهم من جعل الصحابة طبقات كابن سعد والحاكم وغيرهما واحتجوا بأن الصحابة وإن كانوا متساوين في شرف صحبة النبي ورؤيته فإنهم متفاوتون في السبق والبذل والعطاء، فليس مَن سبق في الدخول إلى الإسلام كمن تأخر.

وأشهر تقسيمات الصحابة ما قام به الحاكم النيسابوري أحد أئمة الحديث في كتابه المعروف “معرفة علوم الحديث” فقد قسم الصحابة إلى اثنتي عشرة طبقة هي:

الطبقة الأولى: أهل السابقة في الدخول إلى الإسلام من أهل مكة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب.

الطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة، وهي الدار التي كان يجتمع فيها أهل مكة يتشاورون في شئونهم، فبعد إسلام عمر حمل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى دار الندوة فبايعه جماعة من أهل مكة.

الطبقة الثالثة: الذي هاجروا إلى الحبشة مثل جعفر بن أبي طالب.

الطبقة الرابعة: أصحاب بيعة العقبة الأولى مثل: عبادة بن الصامت وأسعد بن زرارة.

الطبقة الخامسة: أصحاب بيعة العقبة الثانية وأكثرهم من الأنصار.

الطبقة السادسة: أوائل المهاجرين الذين وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بقباء قبل أن يدخل المدينة، مثل أبي سلمة بن عبد الأسد، وعامر بن ربيعة.

الطبقة السابعة: الذين اشتركوا في غزوة بدر مثل الحباب بن المنذر.

الطبقة الثامنة: الذين هاجروا إلى المدينة في الفترة ما بين غزوة بدر وصلح الحديبية مثل: المغيرة بن شعبة.

الطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان في الحديبية مثل عبد الله بن عمر.

الطبقة العاشرة: الذين هاجروا في الفترة بين صلح الحديبية وفتح مكة مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.

الطبقة الحادية عشرة: الذين أسلموا في فتح مكة، مثل أبي سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعتاب من أسيد.

الطبقة الثانية عشرة: الصبيان والأطفال الذين رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وحجة الوداع.

وهذا التقسيم هو الذي جرى عليه أكثر الذين كتبوا في طبقات الصحابة. وهو يؤكد على أن الصحابة ليسوا جميعا في مرتبة واحدة بل هم متفاوتون في المكانة والمنزلة.

مكانة الصحابة وشهرتهم

على أن هذا التقسيم الذي راعى منزلة الصحابة وقدم سابقتهم إلى الإسلام لم يكن له أثر يذكر في تقييد عطائهم حسب قدراتهم ومواهبهم، ومساهماتهم في صنع التاريخ الإسلامي والعطاء الفكري. فأكبر قادة المسلمين وأكثرهم أثرا في الفتوحات الإسلامية لم يكونوا من أصحاب السابقة، مثل: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، فهما من الطبقة العاشرة، واحتل معاوية بن أبي سفيان مكانة مرموقة وأسس دولة على الرغم من كونه من مسلمي الفتح، أي من الطبقة الحادية عشرة.

وأكثر الصحابة رواية للحديث هو أبو هريرة كان ممن أسلم في العام السابع من الهجرة، أي بعد مرور نحو عشرين عاما على بدء الدعوة، وكان زيد بن ثابت من أكثر الصحابة فُتيا على حداثة سنه فلم يكن قد تخطى العشرين، وتولى جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق وكان في الحادية والعشرين من عمره.

عدالة الصحابة

وعلى الرغم من كون الصحابة متفاوتين في السابقة والمنزلة والمكانة والتقدير فإنهم كلهم عدول بثناء الله عليهم، لا يحتاجون مع تعديل الله لهم إلى تعديل أحد من الخلق، قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) الفتح: الآية 29.

وقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة: الآية 100.

وقال سبحانه: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) الفتح: الآية 18.

وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء عاطرا، فقال: “الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه” سنن الترمذي (3862) – كتاب المناقب.

الصحابة في كتب التاريخ

وقد تفرق الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستوطنوا مكة والمدينة والبصرة والكوفة ومصر والمغرب وخراسان وسمرقند يفقهون الناس في دينهم ويعلمونهم شعائر الإسلام، ويروون لهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عني العلماء بوضع الكتب التي تتناول حياتهم وفضائلهم ومروياتهم منذ وقت مبكر جدا، بدأ في القرن الثاني الهجري مع وكيع بن الجراح وعلي بن المديني وغيرهما من كبار العلماء، ولعل أقدم ما وصل إلينا من مؤلفات تلك الفترة هو كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، وقد خصص فيه مؤلفه حوالي ثلث الكتاب لتراجم الصحابة الكرام.

ثم توالت المؤلفات التي عنيت عناية خاصة بهذا الفن، وتعددت طرائقها ببلد معين كالمدينة والكوفة والشام والهند، وعني بعضهم بفريق معين من الصحابة كالمهاجرين والأنصار وأهل البقيع أو البدريين، أو أزواج النبي، أو آل بيته، أو الخلفاء الراشدين، أو المبشرين بالجنة.

غير أن من أعظم الكتب التي ألفت في هذا الفن هو: الاستيعاب في أسماء الصحاب لابن عبد البر، وكتاب “أُسد الغابة في معرفة الصحابة” لابن الأثير وكتاب “الإصابة في تمييز الصحابة”.

أحمد تمام