عبارة “حمي الوطيس” يكنى بها عن اشتداد الحرب، والوطيس هو الفرن.

قال أبو عثمان الجاحظ: وهذه كلمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لم يسبقه إليها أحد، وكذلك قوله: «مات حتف أنفه»، وكذلك قوله: «كلّ الصيد في جوف الفرا»، وكذلك قوله: «هدنة على دخن»، وكذلك قوله: «لايلسع المؤمن من جحر مرّتين»  فصارت كلها أمثالا…[1]

وهذا من مظاهر عظمته صلى الله عليه وسلم، ودلائل نبوته، فلقد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ” فُضِّلتُ على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم”، وفي رواية للبخاري: “أعطيت مفاتيح الكلم…”.

ومعنى جوامع الكلم ومفاتيحه أنه: أوتي ملكة يقدر بها على إيجاز اللفظ، مع سعة المعنى، بنظم لطيف لا تعقيد فيه يعثر الفكر في طلبه، ولا التواء يحار الذهن في فهمه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذهن إلا ومعناها أسبق إليه.[2]  وهذا غاية البلاغة، وقد شبه ذلك القليل الموجز بمفاتيح الخزائن التي هي آلة للوصول إلي مخزونات متكاثرة.[3] قال أبو موسى الأشعري يصف كلامه صلى الله عليه وسلم: وكان قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه.[4]

يقول أبو عثمان عمرو بن بحرالجاحظ: وهنالك فن آخر من كلامه صلّى الله عليه وسلّم، وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلف، وما كان مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.

وهو الذي عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعيب، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالتوفيق.

وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الأفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته.

لم تسقط له كلمة، ولا زلت به قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذّ الخطب الطوال بالكلام القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطىء ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر.

ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى، من كلامه صلّى الله عليه وسلّم كثيرا.[5]

لقد كان -بأبي هو وأمي- في فصاحة اللسان وبلاغة القول، بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل كما يقول: عياض، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف… أوتى جوامع الكلم، وخُصَّ ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها… جاء في كتابه لوائل بن حجر يخاطبه بلهجته: “… فِي التِّيعَةِ شَاةٌ لا مُقَوَّرَةُ الأَلْيَاطِ وَلا ضِنَاكٌ وَأنْطُوا الثَّبَجَةَ وَفِي السُّيُوبِ الْخُمْسُ وَمَنْ زَنَى مِم بِكْرٍ فَاصْقَعُوهُ مِائَةً وَاسْتَوْفِضُوهُ عَامًا وَمَنْ زَنَى مِم ثَيِّبٍ فَضَرِّجُوهُ بِالأَضَامِيمِ وَلا تَوْصِيمَ فِي الدِّينِ وَلا غُمَّةَ فِي فَرَائِضِ اللَّهِ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ يَتَرَفَّلُ عَلَى الأَقْيَالِ أَمِيرٌ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ فَاسْمَعُوا وأطيعوا ” فأين هذا من كتابه لأنس في الصدقة المشهور، لكن  لما كان كلام هؤلاء على هذا الحد وبلاغتهم على هذا النمط وأكثر استعمالهم هذه الألفاظ، استعملها معهم ليبين للناس ما نزل إليهم وليحدث الناس بما يعلمون.[6]

وقد ألفت الكتب وجمعت الدواوين، في جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وحكمه المأثورة، قال الحافظ ابن رجب: وقد جمع العلماء جموعًا من كلماته صلى اللَّه عليه وسلم الجامعة، فصنف الحافظ أبو بكر ابن السني كتابًا سماه: “الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة”، وجمع القاضي أبو عبد اللَّه القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابًا سماه: “الشهاب في الحكم والآداب”، وصنف على منواله قومٌ آخرون، فزادوا على ما ذكره زيادةً كثيرةً، وأشار الخطابي في أول كتابه: “غريب الحديث” إلى يسيرٍ من الأحاديث الجامعة، وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح مجلسًا سماه: “الأحاديث الكلية” [7]

وتطرق إلى ابن دريد في كتابه المجتنى وقال: سميناه “كتاب المجتنى” لاجتنائنا فيه طرائف الآثار كما تجتنى أطايب الثمار. وكذلك القاضي عياض في كتابه الشفا كما مر معنا.

وألف فيه أيضا الحسن بن خلاد الرامهرمزي كتابه أمثال الحديث: ومما ذكرفيه قوله  صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنِ»، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ؟ قَالَ: «الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ فِي الْمَنْبَتِ السُّوءِ»

وكذلك قوله: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ…” فهذا من أحسن كناية وأوجزها وأدلها على معنى لا يتعلق بشيء من لفظه، ومعناه: من خاف النار جد في العمل، ومن جد في العمل وصل إلى الجنة، فجعل خائف النار بمنزلة المسافر الذي يخاف فوت المنزل فيرحل مدلجا. والإدلاج: السير من أول الليل.[8]

ومن أمثلة ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:: «إن المنبتَّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى». يعني العجول الذي يتعب نفسه وغيره، كمثل الراكب الذي يقصم ظهر دابته ولا يصل إلى بغيته.

وقوله: “الحمو الموت“، أي كالموت في خطورة دخوله وما قد يترب على ذلك من مفاسد ومحاذير.

وكذلك قوله: “الدين النصيحة”، و”الظلم ظلمات”، و”الدال على الخير كفاعله”… إلى غير ذلك مما ورد على لسانه صلى الله عليه وسلم، في خطبه وأدعيته، ومخاطباته وعهوده، مما لم يسبق إليه. قال جابر ـ رضي الله عنه ـ: والله إنها كلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبله. يقصد قوله: الآن حمي الوطيس.[9]


[1] البغال للجاحظ ص 25.

[2] فيض القدير للمناوي: 1/563.

[3] إرشاد الساري للقسطلاني ، 10/135.

[4] صحيح مسلم حديث رقم: (2001).

[5]  البيان والتبيين للجاحظ : 2/12.

[6] الشفا للقاضي عياض: 1/70 وما بعدها.

[7] جامع العلوم والحكم لابن رجب : 1/ 56.

[8] أمثال الحديث للرامهرمزي ص 120.

[9] سبل الهدى والرشاد، لمحمد الصالحي الشامي ، 2/97.