حدث النعمان بن بشيرقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب “[1]“.

وفي هذا الحديث الشريف لمحة من لمحات الإعجاز العلمي إذ إن أي مرض يصيب القلب فيفسده، يؤثر على سائر الجسد فيفسد؛ وذلك لأن القلب يقوم بضخ الدم غير النقي (غير المؤكسد) من البطين الأيمن إلى الرئتين حيث ينقى بأكسدته، ويعود الدم المؤكسد النقي من الرئتين إلى البطين الأيسر الذي يضخه إلى كل أجزاء الجسم، فيمد ترليونات الخلايا المكونة لجسم الإنسان بغاز الأكسجين والغذاء، وإذا اضطربت هذه الوظيفة أو اختلت وفسدت، وصل هذا الفساد إلى سائر خلايا الجسد.

ويعجب القارئ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يصف هذه الحقيقة بدقة فائقة، فيقول صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب». وهي حقيقة طبية لم يدركها علم الإنسان المكتسب حتى قام ابن النفيس باكتشاف الدورة الدموية الصغرى في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) وظلت فكرته مطمورة منسية لأكثر من ثلاثة قرون حين حاول بعض الغربيين نسبتها لأنفسهم فأحيوها وطوروها وأضافوا إليها، وأصبح من الثابت علميا أن القلب إذا صلح استقامت الدورة الدموية، وصلح الجسد كله، وإذا فسد القلب فسد كل الجسد.

فمن كان يستطيع في الجزيرة العربية أن يلم بالدورة الدموية في جسم الإنسان، ودور القلب فيها قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، لو لم يكن مصدر ذلك وحي السماء؟ ومن الذي كان يضطر سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخوض في مثل هذه الأمور الغيبية في زمانه، لو لم يكن واثقا من صحة المعلومة الموحى بها إليه، وواثقا من مصدرها؟

هذا بالنسبة للقلب العضوي، تلك العضلة الموجودة في القفص الصدري، التي لا يزيد حجمها على حجم قبضة اليد، ولا يزيد وزنها في الفرد البالغ على ثلث كيلوجرام، وتقوم بحوالي سبعين نبضة في الدقيقة، أي حوالي مائة ألف نبضة في اليوم الواحد، لتضخ خمسة لترات من الدم في كل دقيقة (7200) لتر في اليوم الواحد، عبر شبكة معقدة من الشرايين والأوردة والشعيرات الدموية يبلغ طولها آلاف الكيلومترات؛ لتوصل الدم المؤكسد إلى كل خلية حية في الجسم، وتنزع منها الدم غير المؤكسد.”[2]

ومعروف لنا اليوم أنه ما دام القلب صالحا استقامت الدورة الدموية، ونالت كل خلية حية في الجسد حظها من الدم الذي يحمل لها الغذاء والأكسجين، وبه يتم احتراق المواد الغذائية، وانطلاق الطاقة؛ وإذا فسد القلب اختلت الدورة الدموية، واختل وصول الغذاء والأكسجين إلى خلايا الجسم فيفسد.

ولكن للقلب  ـ في كتاب الله وفي سنةرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مفاهيم كثير من الناس ـ  مدلولا غير تلك الكتلة من اللحم الرابضة في القفص الصدري التي تضخ الدم إلى جميع خلايا الجسم، وهو مدلول يتعلق بالعواطف، والمفاهيم، والأفكار والعقائد والفهم وركائز الأخلاق وضوابط السلوك، وهي قضايا ليس مقرها القلب العضلي وإن ارتبطت بصورة لم يدركها الإنسان بعد، ويراها في كيان معنوي أو لطيفة ربانية روحانية، لها بهذا القلب العضوي تعلق لا تدرك كنهه، ويرى بعض العلماء أن هذا القلب المعنوي، هو حقيقة الإنسان وهو المخاطب والمعاقب، والمعاتب، والمطالب… والقلب المعنوي أو اللطيفة الربانية مرتبطة بمعنى الروح وحقيقته، وهو سر مغلق!”[3]“.

وبهذا المعنى أيضا نرى لمحة إعجازية في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نحن بصدده، فإذا صلح مركز العواطف والمفاهيم والأفكار والعقائد وركائز الأخلاق، وضوابط السلوك، وإذا صلحت حقيقة الإنسان المدرك العالم العارف صلح أمره كله، وإذا فسدت فسد أمره كله.

وهنا تتضح لمحة من لمحات الإعجاز ـ أيضا ـ في هذا الحديث النبوي الشريف إذا أخذ على جانبه المادي العضوي الملموس، وإذا أخذ على جانبه المعنوي الروحاني الغيبي، فإننا نجده صحيحا دقيقا شاملا، فالقلب بمدلوله المادي هو قوام حياة الجسد، إذا صلح، صلح الجسد كله، وإذا فسد، فسد الجسد كله، والقلب بمدلوله المعنوي قوام العواطف، والعقائد والمفاهيم، والأفكار وركائز الأخلاق، وضوابط السلوك ـ (كما أسلفت) ـ فإذا صلح، صلحت كل هذه الزوايا، وبصلاحها يصلح الجسد كله!

فإذا صلحت حقيقة الإنسان المدرك العالم العارف صلح أمره كله، وإذا فسدت فسد أمره كله؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]. وهو المبني على دعائم الإسلام، والإيمان، فأفهمنا الله تعالى بذلك النور أن للقوب أبصارا، كما في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

أما ترى أن الله تعالى أكثر ذكر القلوب في كتابه، فوصفها بأن لها أبصارا، فقال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. ووصفها بأن لها أسماعا، فقال: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100]. ووصفها بالعقول فقال: {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]. {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 87].

وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن قلب المؤمن فقيه عالم بالمشكلات، فقال مجيبا لمن سأله عن البر والإثم فقال « اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»[4].


  • [1] ـ صحيح البخاري (حديث رقم: 52). / وصحيح مسلم حديث رقم: (1599).  
  • [2] ـ د. زغلول النجار / الإعجاز العلمي في السنة النبوية / (ص: 138).
  • [3] ـ إحياء علوم الدين للغزالي 3/ 3).
  • [4] ـ أخرجه أحمد حديث رقم: 18006.