من القضايا التي تناولها علم النفس الحديث وتمثل إشكالا مستمرا في حد ذاته قد توجد مسألة الربط بين الجانب الخلقي والنفسي ،كما قد يصعب تحديد وجه العلاقة بين الجانبين وإلى أي حد يمكن أن يكون الخلق معبرا عن حالة نفسية إما مرضية أو صحية.

ما أحوجنا إلى هذه الوقفة في زمن الخوف والتوهم والتلغيم والتعتيم حينما يختلط علينا الحسن بالسيئ وتتمازج الفضيلة مع الرذيلة، والنوايا الصالحة مع الطالحة، وكذلك عندما يتداخل مرض وهمي مع وباء حقيقي، ويستغل خوف عابر و آني ليوظف مستقبلا بعيدا على حساب مصالح الآخر الضعيف أو المستضعف، فلا تجد من يخلصها حتى تعرف النفس داءها من دوائها !

  أولا: الشعور والقياس النفسي الاستبطاني للفضيلة

   وحينما نراجع  الكتاب الأخلاقي عند ابن حزم الأندلسي :”الأخلاق والسير في مداواة النفوس” فسيثير انتباهنا بشدة حضور هذا المبدأ عند التحليل والاستكشاف ،باعتباره استبطانا وملاحظة مباشرة للذات والمحتويات.

    ولنعرض هنا كنموذج وصورة معتمدة  تحدد لنا مقياس الفضيلة أو الرذيلة بالمقاييس النفسية حيث يقول :

  “ليس بين الفضائل والرذائل ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نفار النفس وأنسها فقط، فالسعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاعات ونفرت من الرذائل والمعاصي، والشقي من أنست نفسه بالرذائل والمعاصي ونفرت من الفضائل والطاعات وليس هاهنا إلا صنع الله تعالى وحفظه[1] .

 الاستشعار النفسي أو الذوق هو المميز بين الفضيلة والرذيلة، وهو يختلف بحسب الأصل الذي بني عليه، إما الإيمان بالله تعالى وهذا الأساس للسعادة والمتحكم في سلوك الفرد من حيث ميله إلى الفضائل واجتنابه للرذائل، وإما انحراف عما يتطلبه من أعمال وهذا أصل الشقاء لدى الإنسان مما قد يحول ذوقه الباطني من السلوك السليم إلى ضده.

إذ من الممكن الجمع بين الحالتين في قوله تعالى :”فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فنيسره للعسرى”[2]. والتيسير لليسرى أو للعسرى لا يأتي إلا بعد ممارسة عملية قد تطول أو تقصر، إذ بقدر تطبع الإنسان بالأعمال التي تكون وراء هذا التيسير نحو كلا الاتجاهين تتحقق فيه اليسرى أو العسرى التي نص عليها القرآن الكريم، سنة جعلها الله تعالى تتحكم في النفوس وتصبغها.

   من هنا يفسر هذه الآيات القرآنية وذلك في القول بنفار النفس وأنسها، مبينا أن الاستئناس لا يأتي إلا بعد الاندماج الكلي بالشيء المستأنس به، وهذا يحتاج إلى زمان[3].

 2)   لهذا فليس مجرد النفور الابتدائي من الفضائل أو الرذائل قد يحدد لنا شقاء الإنسان أو سعادته، وإنما هناك عوامل كثيرة تكون وراء هذه الاستقامة أو الانحراف في الشعور الأخلاقي، وأصل هذه العوامل ومصدرها الميسر لها لكي تتشكل بألوانها هو الله تعالى .

   فقد وجب إذن؛ على العبد أن يتلمس الفضيلة من الله سبحانه وتعالى، ولولا توفيقه سبحانه لما تحلى بها الإنسان ولا عرف معنى الخير والشر أبدا، وذلك لعجزه كما يقول ابن حزم هنا: “واعلم بأنك إن تعلمت كيفية تركيب الطبائع وتولد الأخلاق من امتزاج عناصرها المحمولة في النفس فستقف من ذلك وقوف يقين على أن فضائلك لا خصلة لك فيها وأنها منح من الله تعالى لو منحها غيرك لكان مثلك، وأنك لو وكلت إلى نفسك لعجزت وهلكت، فاجعل بدل عجبك بها حمدا لواهبك إياها وإشفاقا من زوالها. فقد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض والفقر وبالخوف وبالغضب وبالهرم ،وارحم من منع ما منحت، ولا تتعرض لزوال ما بك من النعم بالتعالي على واهبك تعالى وبأن جعل لنفسك فيما وهبك خصلة أو حقا فتقدر أنك استغنيت عن عصمته فتهلك عاجلا أو آجلا”[4].

    هنا قد يبدو التدقيق العلمي عنده بخصوص الأخلاق المبنية على علم النفس، إذ فصل بين الموضوع والمحمول، والنفس ليست هي الطبائع وتركيبها وإنما هذه الأخيرة مجرد ظواهر نفسية؛ وهي المولدة للأخلاق بأنواعها.

 النفس هي الموضوع والطبائع هي المحمول، والأخلاق تابعة للتوازن الحاصل في علاقة هذه الطبائع بالنفس وانتظامها[5]،وحيثما وقع تغير فيها إلا ويحدث تغير آخر مناسب في السلوك والأخلاق، وحينما يذكر الطبائع قد لا يعني بها فقط ظواهر نفسية تجريدية وإنما يذهب إلى أبعد من هذا، إذ يربط بين الجانب النفسي والجانب الجسدي ربطا قويا وذلك تمشيا  مع مذهبه حول جسمية النفس التي يقول بها كما رأينا، ومن هنا سهل عليه إبراز العلاقات النفسية والجسمية بالمحصلات أو الظواهر الأخلاقية على وجه تشارطي و ثلاثي الروابط.

   ثانيا: الظواهر النفسية الجسدية وتأثيرها الخلقي

 1)   إذا كانت الأخلاق تابعة للتراكيب والطبائع النفسية وأن النفس لها صلة تلاحم مع فارق في مستوى التسامي العنصري فقط، فإن هذا الجسد سيكون له تأثير على النفس وعلى الأخلاق سواء من حيث  السلامة والثبات أو المرض والانحراف.

   عن هذا المنحى في الدراسة الأخلاقية المبنية على علم النفس لم يكن ابن حزم السباق إليها، فقد عرفها قبله المفكرون غيره من بينهم فيلسوف الأخلاق ابن  مسكويه الذي ذهب أبعد من هذا ،لأنه ربط بين الجانب النفسي والبيئي والأنتروبولوجي (الأناسي) بعد ذلك سيأتي دور الجانب الأخلاقي في دراسة جد متقدمة علميا حيث يرى: “أن أول المراتب من الأفق الإنساني المتصل بآخر ذلك  الأفق الحيواني، مراتب الناس الذين يسكنون في أقاصي المعمورة من الشمال والجنوب كأواخر الترك من بلاد يا جوج ومأجوج وأواخر الزنج وأشباههم من الأمم التي لا تميز عن القرود إلا بمرتبة يسيرة، ثم تتزايد فيهم قوى التمييز والفهم إلى أن يصيروا إلى وسط الأقاليم فيحدث فيهم الذكاء وسرعة الفهم والقبول للفضائل، وإلى هذا الموضع ينتهي فعل الطبيعة التي وكلها الله عز وجل بالمحسوسات.

     ثم يستعد بهذا القبول لاكتساب الفضائل واقتنائها بالإرادة والسعي والاجتهاد الذي ذكرناه فيما تقدم حتى يصل إلى أفقه، فإذ صار إلى آخر أفقه اتصل بأول أفق الملائكة، وهذا أعلى مرتبة الإنسان وعندها تتأحد الموجودات ويتصل أولها بآخرها”[6].

  2)   كما نجد أيضا عند معاصر لابن حزم ،وهو أبو الحسنالماوردي، رأيا صريحا في هذا الجانب قد يذهب به أبعد مما ذهب إليه ابن مسكويه في إبرازه للتفاعل بين الأخلاق والنفس والعوامل الجغرافية فيرى أن :

    “النفس مجبولة على صفات مهملة وأخلاق مرسلة لا يستغني محمودها عن التأديب ولا يكتفي بالمرضي منها عن التهذيب لأن محمودها أضداد مقابلة يسعدها هوى مطاع وشهوة غالبة.

     فإن أغفل تأديبها تفويضا إلى العقل أو توكيلا على أن تنقاد إلى الأحسن بالطبع أعدمه التفويض درك المجتهدين وأعقبه التوكل نوم الخائبين، فصار من الأدب عاطلا وفي صورة الجهل داخلا.

    لأن الأدب مكتسب بالتجربة أو مستحسن بالعادة ولكل قوم مواضعة وذلك لا ينال بتوفيق العقل ولا بالانقياد للطبع حتى يكتسب بالتجربة والمعاناة ويستفاد بالتجربة والمعاناة ثم يكون العقل عليه قيما وزكي الطبع إليه مسلما”[7].

   وبما أن النفس لها استعداد للتأدب والتكيف بأخلاقيات توجهها إرادة الإنسان نحوها فإنها قابلة للتغير أيضا من هذه المرحلة إلى ما هو أدنى ،أي: سوء الخلق.

   و قد قسم الماوردي الأسباب ذات العلاقة بتغيير السلوك إلى سبعة أقسام نوعية وعارضة ،وهي: الولاية والعزل منها، والغنى والفقر والهموم ،والأمراض الجسدية وعلو السن.

   بالإضافة إلى هذا، هناك سبب خاص يحدث سوء خلق متميز وهو البغض الذي تنفر منه النفس فتحدث نفورا على المبغض فيؤول إلى سوء خلق يخصه دون غيره”[8]

    هذه الرؤى المتقاربة بين المفكرين النفسيين والأخلاقيين المسلمين، وخاصة في القرن الخامس الهجري، لا تخلو من بعض الخصائص التي توجد لدى البعض دون الآخر وذلك على سبيل الإجمال أو التفصيل، إذ الكل يحيل الظواهر الخلقية إلى الظواهر لنفسية أو الجسدية والاجتماعية والبيئية، لكن تحديد الواقعي منها هو ما يفتقد عند الكثيرين الذين أدلوا بأحكام عامة ونظريات مقننة من الكتب العلمية الإنشائية أو الإخبارية.

    لكن عند  مطالعة منهج ابن حزم في هذه القضايا  سنجده يحدد الفكرة ثم يدعمها بالحادثة، فهو على سبيل المثال حينما يقول بوجود تفاعل بين المستوى الأخلاقي والطبائع النفسية لا يترك هذا القول مجملا أو مجرد نظر، وإنما يستشهد  على ذلك بأحداث واقعية وتجارب شخصية، كما يقول هنا: “ولقد أصابتني علة شديدة ولدت علي ربوا في الطحال شديدا فولد علي ذلك من الضجر ضيق الخلق وقلة الصبر والنزق أمرا حاسبت نفسي فيه، إذ أنكرت تبدل خلقي فاشتد عجبي من مفارقتي لطبعي وصح عندي أن الطحال موضع الفرح فإذا فسد تولد ضده[9].

    بهذا يكون قد وضع لبنات مهمة لما سيعرف حديثا بعلم النفس الفسيولوجي، بغض النظر عن صحة فرضيته حول وظيفة الطحال النفسية، فالتفاعل هنا ثلاثي بين النفس والجسد والأخلاق، وهذا التفاعل المتأصل من الجسد محدد بدقة، فهو نابع من الطحال بالنسبة إلى الفرح، كما ذهب إليه. فهل من مراجعة وتصحيح علمي ،نفسي وأخلاقي، لوضع الأمور في نصابها السليم حتى لا يختل التوازن الخاص فينهار العام.” ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ”.


  • [1] ابن حزم:الأخلاق والسير  ص18
  • [2] سورة الليل آية 5-10
  • [3] ابن حزم :الأخلاق والسير ص28
  • [4] نفس ص 71
  • [5]نفس ص38
  • [6] ابن مسكويه: تهذيب الأخلاق   ص72
  • [7] الماوردي :أدب الدنيا والدين   ص153
  • [8] نفس   ص165
  • [9] ابن حزم: الأخلاق والسير   ص71