روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى».[1]

في هذا الحديث الشريف تظهر سماحة الإسلام، فالرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه مبتهلًا إليه، أن يرحم المؤمن السمح في كل معاملاته فيحسن المعاملة في البيع والشراء، كما يحسن المعاملة في قضاء الدين، الذي عليه بالحسنى، واقتضاء الدين الذي يكون له عند الآخرين، فيمهله حتى يستطيع رده، أو يتنازل عنه؛ فيتصدق عليه لإعساره، بل هذا خير له، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] وفي الحديث الشريف: «من أنظر معسرا أو وضع عنه، أظله الله في ظله».[2]و«من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر، أو يضع عنه».[3] فأخذ يصور مواطن السماحة في حسن المعاملة تصويرًا أدبيًا في تعبير بلاغي نبوي شريف.

أولًا: عبر عن السماحة في صورة بلاغية تتضمن الدعاء منه – صلى الله عليه وسلم- لمن يتعامل بها، ودعاؤه مستجاب في كل الأحوال، فيرحمه الله تعالى في الدنيا والآخرة، لأن السماحة سخاء في النفس وكرم في الخلق، ولين في الطبع، تربي المسلم على حسن المعاملة.

ثانيًا: صور النبي – صلى الله عليه وسلم- من يستحق الرحمة من الله عز وجل في تعبير بلاغي فريد، حين جعل السماحة هي الرجل نفسه، والرجل هو السماحة نفسها، لا فرق بينهما فقال: “يرحم الله رجلًا سمحًا”.

ثالثًا: عرض النبي – صلى الله عليه وسلم – السماحة في البيع في صورة أدبية بلاغية عميقة، تتناول الأخلاق السامية في المعاملة، وتعتمد على القيم النبيلة في التجارة، وفي رعايتها صلاح حال الأفراد والمجتمع لضرورة تبادل المنافع بين الناس بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، فلا يبالغ البائع في الربح، بل يقنع باليسير منه، فيكثر الإقبال عليه، وتروج تجارته، ويتحقق له الغنى والثراء، أما الذين يبالغون في الربح من أهل الفظاظة لا السماحة، فإنهم ينفرون الناس من التعامل معهم، فتبور تجارتهم، وتكسد ساحتهم، وينتهون إلى الإفلاس فيحل عليهم الغضب لا الرحمة.[4]

ومن السماحة في البيع أن يحدد ثمن بضاعته، حتى لا يتعرض لكثرة المساومة والحلف لترويج سلعته، وقد ذم القرآن الكريم الذين يروجون سلعتهم بالأيمان الغموس، ويشترونها بالحلف الكاذب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ..} [آل عمران: 77] وقد امتدح النبي – صلى الله عليه وسلم- التاجر الصادق فقال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء»[5] وتقتضي السماحة من البائع عدم الغش أو البخس في الكيل والميزان، مما يتنافى مع المروءة فذلك عين الكذب، قال النبي – صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا».[6]

رابعًا: عرض النبي – صلى الله عليه وسلم- السماحة في الشراء بصورة أدبية بليغة على سبيل التحقيق، حين عبر بإذا، التي تفيد الحقيقة لا الشك أو التردد أو الكذب، كما تفيد السماحة في الشراء على سبيل الحقيقة في وقوع فعل الشراء في الماضي، الذي يدل على تحقق الوقوع، أي لا بد منه، فقال: “سمحًا إذا اشترى”، فيكون سهل المساومة في شرائه، سمحًا في تقويم البضاعة والسلعة فلا يبخس قيمتها، ولا يعمل على تطفيف الميزان والكيل وزيادته، فإن ذلك سحت، وأكل الأموال بالباطل، قال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]

خامسًا: عبر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن السماحة في اقتضاء الدين وقضائه؛ في صورة أدبية بليغة في قوله: “سمحًا إذا اقتضى وإذا قضى” فعبر أيضًا بإذا وبالفعل الماضي على سبيل التحقيق في الوقوع والتنفيذ، فيكون الدائن “سمحًا” في قضاء حقه، يطلب دينه في لين لا في فظاظة وغلظة، ولا خصومة وشدة، بل دعاه أن يتخلى عن الدين، لإعسار المدين، وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ” كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه “.[7]

وأما السماحة في قضاء الدين؛ فتقتضي رده في أجله على الوجه الذي يحبه الدائن ويرضاه، ولا يحوج الدائن إلى مطالبته والإلحاح عليه مع قدرته على سداد ما في ذمته لئلا يكون مماطلا فالمطل ظلم يخل بالمروءة والسماحة[8]،  وقد قال صلى الله عليه وسلم:

«مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع».[9] وفي مسند الإمام أحمد.. عن شهر بن حوشب، عن عمرو بن عبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ـ (…) ـ ما الإسلام؟ قال: «طيب الكلام، وإطعام الطعام». قلت: ما الإيمان؟ قال: «الصبر والسماحة» . قال: قلت: أي الإسلام أفضل؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» . قال: قلت أي الإيمان أفضل؟ قال: «خلق حسن».[10]

وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا، وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها؛ فإن النفس يراد منها شيئان:

1- بذل ما أمرت به، وإعطاؤه. والحامل عليه: السماحة.

2- وترك ما نهيت عنه، والبعد منه. والحامل عليه: الصبر.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه. والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه. والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه.[11]

وإذا عـــرتك بلية فاصبـر لها     صبر الـكــريـم فإنه بك أعـلـم

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما     تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم


  • [1] ـ صحيح البخاري / الحديث رقم: (2076).
  • [2] ـ صحيح مسلم / الحديث رقم: (3006).
  • [3] ـ صحيح مسلم / الحديث رقم: (1563).
  •  [4] ـ التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف (ص: 167).
  • [5] ـ سنن الترمذي ت شاكر / الحديث رقم: (1209).
  • [6] ـ صحيح مسلم / باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» / (1/ 99).
  • [7] ـ صحيح البخاري / الحديث رقم: (2078).
  • [8] ـ (التصوير النبوي..) / (ص: 169).
  • [9] ـ صحيح مسلم / الحديث رقم: (1564).
  • [10] ـ مسند أحمد مخرجا / الحديث رقم: (19435).
  • [11] ـ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 159).