تحتوي سورة القدر على مجموعة من الأغراض التي جاءت السورة لبيانها وترسيخ معانيها والتي تتوافق مع الغايات الكبرى التي جاء الإسلام بها، ويحققها البيان القرآني المعجز، وكان من أبرز أغراض هذه السورة والفكرة الرئيسة التي تفهم من آياتها، التنويه بخير ليلة القدر وفضل القرآن الكريم وعظمته لذلك أسند الله بدايته وتنزيله إلى ذاته العلي سبحانه، وفي سبيل إثبات هذه الحقيقة الرد على الذين يجحدون أصل القرآن ومصدره.

يضاف إلى ما تقدم بعض الفوائد التي اشتملت عليها هذه السورة ومن ذلك:

1– رفع شأن هذا القرآن الموجود بين الناس، إذ الفضل يرجع ابتداء إلى مصدره، فهو كلام الله تعالى، ثم الزمن الذي نزل فيه وهو ليلة القدر، وهي إحدى ليالي شهر رمضان، والطريق التي جاء التنزيل بها، إشارة إلى الروح وهو جبريل الذي كان ينزل بهذا الكتاب العزيز إلى النبي صلى الله عليه وسلم منجما.

2– تفضيل الليلة التي توافق ليلة إنزاله من كل عام، وهي ليلة القدر، وما يتبع ذلك من تحريض المسلمين على تحين ليلة القدر بالقيام والتصدق.

3– أما إطلاق هذا الاسم على ليلة القدر فهو اختيار من الله تعالى خصص به الليلة التي بدأ فيها التنزيل على النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر أن أول تسميتها بهذا الاسم كان في هذه الآية ولم تكن معروفة عند المسلمين وبذلك يكون ذكرها بهذا الاسم تشويقا لمعرفتها،  ولذلك عقب بقوله: (وما أدراك ما ليلة القدر).  

4– ومعنى القدر الذي عرفت به الليلة بالإضافة إليه هو الشرف والفضل عند الله تعالى لما فيها من البركة والكرامة وهو تشريف آخر للقرآن الكريم بتشريف زمان ظهوره.   

جاء في التسهيل: دل سياق الآية (إنا أنزلناه في ليلة القدر) على تعظيم للقرآن من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ذكر ضميره دون اسمه الظاهر دلالة على شهرته والاستغناء عن تسميته، الثاني أنه اختار لإنزاله أفضل الأوقات، والثالث أن الله أسند إنزاله إلى نفسه.
5– تفيد السورة أن القرآن كما تشرف بنزوله في أفضل ليالي السنة، كذلك اختصت ليلة القدر من بين ليالي السنة بتشرفها بإنزال القرآن فيها، وبتنزل الملائكة والروح فيها، وبكونها رحمة وسلاما على المؤمنين حتى مطلع الفجر، وفي هذه الفضائل كفاية وغنية للحض على الاهتمام بهذه الليلة والحرص على اغتنام ساعات الإجابة فيها.     

ليلة القدر ونزول القرآن

هل المنزل في ليلة القدر كل القرآن أو بعضه؟

لا خلاف بين المفسرين أن الضمير الغائب في قوله (أنزلناه) عائد على القرآن الكريم لأنه المنزل في ليلة القدر تنويها بشأنه وشهرته وحضوره في أذهان المسلمين لشدة اهتمامهم به، وإنما وقع الاختلاف في بيان كم نسبة نزلت من القرآن في تلك الليلة؟ هل المنزل في هذه الليلة كل القرآن أو بعضه؟
ذهب بعض العلماء إلى أن ما نزل في ليله القدربداية الوحي بالقرآن، إشارة إلى أوائل سورة العلق وقد بدأ الوحي  بها، وهو مروي عن ابن عباس، قال: (ثم تتالى نزول الوحي، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة).
وذهب بعض العلماء إلى أن المنزل في تلك الليلة، هو جميع القرآن جملة واحدة، وكله إلى سماء الدنيا، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما حسب الوقائع. وهو قول الجمهور حتى حكى الألوسي عليه الإجماع.
ولعل الراجح أنه لا منافاة بين القولين، حيث يمكن الجمع بين القولين، إذا علم أن بداية نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كان في غار حراء، ونزل حينها أوائل سورة العلق، وكان في ليلة القدر، ثم تتابع لفترة ثلاث وعشرين، فقد نزل في الدنيا منجما، وعليه يحمل القول الأول، وأما القول بنزوله جملة في ليلة القدر فمحمول على نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، وفي كل حالته تشريف لهذا القرآن.

ويمكن الإشارة إلى توجيهين اثنين للجمع بين القولين إلى جانب ما ذكر:

أ – جاء في أضواء البيان:

“الواقع أنه لا تعارض كما تقدم، بين كونه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا جملة، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما؛ لأن كونه في اللوح المحفوظ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.

ونزوله جملة إلى سماء الدنيا، فهو بمثابة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة القرآن، فأصبح القرآن موجودا في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه، وموجودا في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما.

ومعلوم أنه الآن هو أيضا موجود في اللوح المحفوظ، لم يخل منه اللوح، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجما بقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9]؛ لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله: (تنزل الملائكة) [القدر: 4] ، أي: في كل ليلة قدر.

وعلى هذا يكون القرآن موجودا في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو كائن وما سيكون، ثم جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر، ثم نزل منجما في عشرين سنة. وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله، فيسمعه جبريل عليه السلام عن الله تعالى. ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث”.

  ب – جاء في التحرير والتنوير: “يجوز أن يراد به القرآن كله فيكون فعل: «أنزلنا» مستعملا في ابتداء الإنزال لأن الذي أنزل في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجما ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة، ولكن لما كان جميع القرآن مقررا في علم الله تعالى مقداره وأنه ينزل على النبيء صلى الله عليه وسلم منجما حتى يتم، كان إنزاله بإنزال الآيات الأول منه لأن ما ألحق بالشيء يعد بمنزلة أوله”.