الإحسان هو الإتقان، أو بلغة اليوم هى الجودة، وهى أداء العمل بإحكام، قال تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}(النمل:88). يقول النبي ﷺ:” إن الله كتب الإحسان على كل شىء”(رواه مسلم)، حتى فى العبادات ومنها الزكاة.
يبرز الإحسان بصورة كبيرة فى تشريع الإسلام للزكاة، إذ أنها تقوم على الإحسان فى أبهى صوره، إذا ما أديت وفق ما شرع الله دون تبرم أو سخط، فقد شرعت فى المقام الأول لتلبية حاجات الفئات الضعيفة فى المجتمع المسلم، «وهذا سر ما نلاحظه فى القرآن الكريم من تكرار الدعوة إلى الإحسان باليتامى والمساكين وابن السبيل وفى الرقاب، يستوى فى ذلك مكى القرآن ومدنيه. وذلك لأن كل واحد من هذه الأصناف يشكو ضعفًا فى ناحية، فاليتيم ضعفه من فقد الأب، والمسكين ضعفه من فقد المال، وابن السبيل ضعفه من فقد الوطن، والرقيق ضعفه من فقد الحرية».
كما أن للزكاة أيضًا دورها المهم في الرخاء المعيشي والتكافل، وتوفير الموارد المالية للخزانة العامة للدولة المسلمة؛ وبالتالي فإن لها أهمية عظيمة في الدعوة إلى الله، فالمجتمع الذي يحقق التكافل بين أفراده لهو مجتمع فاضل، ينظر إليه على أنه نموذج يحتذى، كما يشعر كل فرد بأهميته وكرامته، فيتأكد ولاؤه له، وانتماؤه إليه.
ولقد كان من روائع الإسلام، بل من معجزاته الدالة على أنه دين الله حقًا، أنه سبق إلى علاج مشكلة الفقراء والمحتاجين، دون أن يقوموا بثورة، أو يطالبوا – أو يطالب لهم أحد بحياة إنسانية كريمة، بل دون أن يفكروا مجرد تفكير في أن لهم حقوقًا على المجتمع يجب أن تؤدى، فقد توارث هؤلاء على مر السنين والقرون أن الحقوق لغيرهم، وأما الواجبات فعليهم، ولم تكن عناية الإسلام بهذا الأمر سطحية ولا عارضة، بل هي من صلب أصوله، وذلك حين فرض للفقراء وذوى الحاجة حقًا ثابتًا في أموال الأغنياء، يَكْفُر مَن جَحَدَه، ويَفْسُق من تَهرَّب منه، ويُؤخذ بالقوة ممن منعه، وتُعلن الحرب من أجل استيفائه ممن أبَى وتمرد. وجعلها ثالثة دعائم الإسلام.
والذي يهمنا في قضيتنا هو بيان جانب الإحسان في الزكاة بمعناه الذي يسمو الإنسان به في أدائها، ويرفع مرتبته عند ربه، إذا أخرجها طيبة بها نفسه، مبتغيا ثواب الله، راجيا تزكية نفسه، وسموها عن مشاعر الشح والبخل والأنانية.
وقد بين الله عز وجل بعض مظاهر الإحسان في الزكاة في قوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات:15-19)
فقد رأينا فيما سبق أن أحد مظاهر الإحسان في هذه الآية، وهي العلاقة التي تربط العبد المسلم بربه، ويتجلى ذلك في المحافظة على الصلاة والتطوع لله عز وجل بها بالليل، وكذلك فإن هذه الآيات تحدد لنا بعضا من مظاهر الإحسان في الزكاة، وهو الجانب الذي يميز علاقة المحسنين من عباد الله بمجتمعاتهم؛ إذ إنها أيضًا مبنية على الإحسان والتكافل؛ فهم يرون أن الأموال التي في أيديهم هي هبة من الله عز وجل استخلفهم فيها، فيخرجون حق الفقير والمحتاج دون تبرم أو ضجر، فعن زيد بن أسلم قال في قول الله ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ قال ليس ذلك بالزكاة، ولكن ذلك مما ينفقون من أموالهم بعد إخراج الزكاة، فهذا الصنف من المحسنين لم يقتصر على ما فرض الله عز وجل عليه إخراجه من أموال، بل أرادوا أن ينعموا برضوان الله عز وجل، ويصلوا إلى مرتبة الإحسان فتطوع بعبادة ربه تعالى من جنس ما فرض الله عليه من العبادات، وأكثر التصدق وبذل الأموال في سبيل الله سرًا وعلانية، لينعم برضاه.
وأثر هذا النوع من العبادة في الدعوة إلى الله من الوضوح بمكان؛ فهي من جانب المتصدق طهارة لنفسه من الشح والبخل، وطهرة له مما عسى أن يكون ألم به من الذنوب والآثام، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}(التوبة:103) فهذا توجيه من الله عز وجل للرسول ﷺ بأن يأخذ من أموال المؤمنين صدقة بمفهومها الواسع، سواء أكانت مفروضة معينة كالزكاة، أم غير مفروضة وهي التطوع، ويبن السبب في ذلك (تطهرهم وتزكيهم بها) أي تطهرهم بها من دنس البخل والطمع، والدناءة والقسوة على الفقراء والبائسين، وما يتصل بذلك من الرذائل، وتزكي أنفسهم بها، أي تنميها وترفعها بالخيرات والبركات الخلقية والعملية، حتى تكون بها أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية. وهي في جانب الآخذ، حفظا لنفسه وكرامته، وجبرا لخاطره، وتأليفًا لقلبه، مما يجعل له أبلغ الأثر في استلال المشاعر السوداوية التي قد تهجم على نفسه، فيقع أمامها صريعًا، فيعيش آلامًا نفسيه مريرة، سرعان ما تتحول إلى صراع نفسي مسعور، مليء بالنفور من المجتمع أو الحقد عليه، مما يجعل استقرار الحياة بين أفراد المجتمع قضية مستحيلة.
ومن هنا كان أحد مظاهر الإحسان في الزكاة – والصدقات التطوعية أيضا- أن يخرجها المسلم بنية خالصة لله، طيبة بها نفسه دون مَنٍّ أو أذى، كما ورد في الحديث: “ثلاث من فعلهن فقد طَعِم طَعْم الإيمان: من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام، ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط: اللئيمة ولكن من وسط أموالكم؛ فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره”(رواه البخاري ومسلم).
وزاد في رواية: “وزكى نفسه فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان”.
وفي الحديث الآخر: “من أدى زكاة ماله طيبة بها نفسه يريد وجه الله والدار الآخرة لم يغيب شيئا من ماله، وأقام الصلاة وأدى الزكاة، فتعدى عليه الحق، فأخذ سلاحه فقاتل، فقتل، فهو شهيد”(رواه البخاري).
إن خروج الزكاة – وكذلك الصدقة – بطيب نفس من المخرج، رغبة في ثواب الله عز وجل وابتغاء مرضاته لهو الذي يحقق أهداف تلك العبادة العاجلة والآجلة، فهو في الدنيا يخلص القلب من آفات الشح والأنانية، وأثقال البخل، ويسمو بصاحبه خلقيا واجتماعيا، أما في الآخرة فهو يرتقي به ليكون بصحبة المحسنين الأخيار، الذين ينعمون بجوار ربهم يوم القيامة، ولذلك نرى كثيرا من الآيات تحث المسلم على أن يقرض ربه قرضا حسنًا، ويرتب على ذلك مضاعفة الأجر إلى أضعاف كثيرة.
يقول تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون}(البقرة:245).
ويقول تعالى:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}(الحديد:11).
ويقول أيضا:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(المزمل:20).
فالقرض الحسن هو الذي جاء به صاحبه من الكسب الحلال الطيب، ثم تصدق به عن طيب نفس منه، دون أن يخالطه مَنٍّ أو أذى، بل خرج ابتغاء مرضات الله سبحانه؛ ولذا نقل الطبري في تفسيره عن بعض العلماء: “إن الله أعطاكم الدنيا قرضا، وسألكموها قرضا، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمائة، إلى أكثر من ذلك”.
وكان من صور هذا القرض الحسن في حياة الصحابة ما أورده المفسرون من موقف الصحابي الجليل أبي الدحداح الأنصاري لما نزل قوله تعالى:{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ}(البقرة:245) قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله عز و جل ليريد منا القرض قال: نعم يا أبا الدحداح. قال: أرني يدك يا رسول الله. فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي عز و جل حائطي – قال بن مسعود – وحائط له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك. قال: أخرجي فقد أقرضته ربي عز و جل”.
أما من تظاهر بالعطاء، ولم يطهر قلبه من أدران المن والأذى فإنه ليس له في الآخرة من نصيب، بل عمله مردود عليه، فإن الإحسان في العمل ضرورة من ضرورات قبوله، وشرط في الإثابة عليه، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(البقرة:262)، إنه التجرد في إخلاص النية لله وحده، والإحسان إلى المجتمع بلا تعقيدات نفسية واجتماعية تكسر قلوب الفقراء والمحتاجين، بل هناك التزام بكرامة العنصر البشري، وعدم الانحطاط إلى أوحال النفس البشرية في أقبح نزواتها، وأخبث غرائزها، التي ترى متعتها في إذلال النفوس، وكسر قلوب العباد، في نوبة من الزهو والعنجهية المقيتة، وهي أمراض اجتماعية فتاكة، يجب أن يتطهر منها المجتمع. يقول صاحب الظلال: “والمن عنصر كريه لئيم، وشعور خسيس واطٍ؛ فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء الكاذب، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس. فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء، فهو أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء؛ ورغبة في رؤية أخيه ذليلاً له كسيراً لديه؛ وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء، وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد الخلة، إنما أراده تهذيباً لنفس المعطي، وربطه بأخيه الفقير؛ وتذكيراً بنعمة الله وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة، وأن ينفق منها في سبيل الله في غير منع ولا منٍّ، كما أراده تندية لنفس الآخذ ، وتوثيقاً لصلته بأخيه؛ وسداً لخلة الجماعة كلها لتقوم على أساس من التكافل والتعاون يذكرها بوحدتها، والمن يذهب بهذا كله، ويحيل الإنفاق سماً وناراً . فهو أذى وإن لم يصاحبه أذى باليد أو باللسان . فهو يمحق الإنفاق ، ويمزق المجتمع ، ويثير السخائم والأحقاد”.
إن الإسلام عندما يشرع هذه التشريعات بهذه الكيفية ليعالج المجتمعات البشرية من آفات اجتماعية خطيرة قد تأتي على الأخضر واليابس، فإن الفقير الذي يشعر بالدونية والحقارة في مجتمعه، هو قنبلة موقوتة، يوشك أن تنفجر في صورة عداء تام للمجتمع وحقد كامل عليه من جراء هذا النوع من السلوك الاستعلائي المقيت، الذي يجعله يشعر بالذل والخضوع والضعف أمام المعطي؛ فيظل هذا الشعور يختمر في نفسه؛ يؤرقه ليل نهار، ويحول حياته إلى صراع وجحيم، فيحاول أن يكوّن معادلا نفسيا لهذا الشعور البغيض بالوضاعة والذل، فلا يجد إلا المشاعر السلبية من الحقد والحسد والضغينة على المجتمع كله بصفة عامة، ومجتمع الأغنياء بصفة خاصة، فينظر إليه بعين الجحود والريبة، والسخط على قضاء الله فيه، والتنكر لصاحب الفضل وإضمار العداوة له؛ لأنه يشعره دائماً بضعفه وذله تجاهه؛ ومن ثم تتحول الحياة إلى أتون مستعر، من المادية والنفعية والتسلط، وتكثر الجرائم المدمرة في المجتمع بسبب المال، كما يشاهد في بعض المجتمعات المعاصرة.
ونظرًا لكل هذه الأمراض الخطيرة التي يخلفها المن والأذى فإن القرآن يوجهنا إلى أن مجرد الشعور الطيب والكلمة الحانية على الفقير خير من هذه الصدقة التي تختال في بهرج زائف من المن والأذى، قال تعالى:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}(البقرة:263)، فالكلمة الطيبة في هذا المقام تمسح آلام الفقير، وتشعره بالتجاوب العاطفي الإنساني معه، وفي هذا نوع من التعويض النفسي، الذي يأخذ بيده على طريق الصبر والإيمان، ومن ثم فهي أجدى ألف مرة من صدقة تلفعت بالمن والأذى، وصدق الله إذ يقول:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الملك:14).