يأتي العيد في زمن كورونا وقد أفسد الوباء الكثير من مظاهره وطقوسه، ولكن يمكننا أن نلتمس معانيه، فالعيد من العود والمعاودة والرجعة.

(عيدٌ بأيّ حالٍ عُدتَ يا عيدُ      بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ)

هكذا قالها الشاعر أبو الطيب المتنبي قبل أكثر من 1000 عام .. فهاهو العيد قد عاد على الأمة الإسلامية ولكن ليس بأحسن حال ، يحمل في طياته كثير مما مضى ، ولكن جديده أنه في زمن الأوبئة وعلى رأسها جائحة كورونا، والإجراءات الاحترازية التي تفرضها الدول لمنع انتقال العدوى، وحظر التجوال، وهو ما سيحرم الجميع -وخاصة الأطفال الذين ينتظرونه بشغف- من الاحتفال به.

وعيد الفطر رأس السنة الحقيقي بعد أحد عشر شهرًا من العمل والجهد والجهاد بجبهة الحياة، وأول يوم من شوال هو أول السنة الحصادية الحقيقي، وهو يوم الغلة والعطاء وجني الثمار. العيد عطية الله وهبة السماء، بعد أن صامت أرواحنا وغُربلت بالصيام، وبعد أن أدينا أعمال ليال القدر، وبعد أن ابتلت عروقنا وتغذت نفوسنا وهدأت أرواحنا، واللباس الجديد قناع للظاهر من أجسادنا، وهو للناس ولمن حولنا، وأما اللباس الحقيقي المطلوب هو ما بداخلنا، وما هي عليه أرواحنا آخر الجرد السنوي.

المفهوم الروحي للعيد هو أن يكون للعيد من العموم والشمول ما يجعل الناس جميعًا يشاركون في تحقيق السعادة للجميع ، واستشعار آثارها المباركة ، ففي العيد لابد أن تتقارب القلوب على الود، ويجتمع الناس بعد افتراق، ويتصافون بعد كدر. في العيد تذكير بحق الضعفاء في المجتمع الإسلامي حتى تشمل الفرحة بالعيد كل بيت، وتعم النعمة كل أسرة، وهذا هو الهدف من تشريع صدقة الفطر، أما المعنى الإنساني في العيد، فهو أن يشترك أعدادٌ كبيرة من المسلمين بالفرح والسرور في وقت واحد فيظهر اتحادهم وتُعلم كثرتهم باجتماعهم، فإذا بالأمة تلتقي على الشعور المشترك، وفي ذلك تقوية للروابط الفكرية والروحية والاجتماعية.

الحق نقول: إن دوام الحال من المحال فكما عشنا أيام رغد ورخاء يعيش معظمنا أيام شدائد كأزمة كورونا فذلك من قضاء الله وقدره.. ولكن يجب أن يتكاتف أبناء الأمة صفاُ واحداً كالبنيان المرصوص وبهمة عالية في التصدي لهذه المحنة وغيرها.. ويجب أن لا تؤثر أزمة كورونا على عيدنا ومعنوياتنا بالحجر؛ فالعيد ليس فقط زيارات وتجمعات.. العيد إحساس بالآخرين بوجودنا في الحياة معاً وحبنا وتقديرنا لهم ، فالتهنئة والمباركة عبر وسائط التقنية المرئية الجماعية قد تكون بديلاً جيداً، وتكبيرات العيد هي إعلان للانتصار على الذات في صيام رمضان وقيامه فجميل أن تكون خارج المساجد ميكروفونات وتكبيرات العيد يسمعها الناس في جميع الأحياء وكذلك من الممكن في البيوت البعيدة عن المساجد أن يتبرع أصحاب المنازل بوضع مكبرات الصوت في شرفات المنازل حتى يصدح التكبير في الأحياء.. لأن الاحتفاء بالعيد من شعائر الله يقول تعالى:{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}فيجب إظهار الفرح والسرور.. وارتداء ملابس جميلة فالكثير منا قد لا يستخدم نصف ما في خزانة ملابسه وهي بهذا المفهوم ملابس جديدة..

والله لو كبَّرَت قلوب أبناء الأمة كما كبَّرت ألسنتهم، لغيروا وجه التاريخ، ولو تصافحت قلوبهم كما تتصافح أيديهم، لقضوا على عوامل الفُرقة، ولو تبسَّمت أرواحهم كما تبسَّمت شفاههم، لكانوا مع أهل السماء، ولو لبسوا أكمل الأخلاق كما يلبسون أفخر الثياب، لكانوا أجمل أمة على الأرض.

كل يوم هو عيد للمسلم، إذ وضع رأسه نهاية اليوم، وأبناؤه سالمين غانمين، والكل بصحة جيدة، ولم ينقص أحدهم، وليس في رقبته وذمته حق ومستحق لأي إنسان، والوالدان راضيان عنه، هنا يتجلى العيد الحقيقي للمسلم، وهو العود المحمود والمقصود..العيد تعبير عن فرحة وشكر وإظهار لنعم الله عليه، بل وتشديد لقوى التواصل والتآزر بين المسلم وربه، ثم مع من حوله، ويبدأ بالأقربين كالوالدين والزوجة والأولاد، ثم مع كافة الناس. العيد هو أن نجسد للسعادة والفرح في هذه الأمة رغم المكدرات والمنغصات التي تمر بها الأمة ، وبث روح التفاؤلٍ فيها بزوال الغمة، العيد هو الحالة الطبيعية التي يجب أن تكون عليها أمة الإسلام.

حتى مع العيد في زمن الكورونا ، العيد الحقيقي هو أن يعود المسلم ربه وإلى سنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم.. العيد لمن أقام فى بيته منهج القرآن.. ولمن أنار بيته بالأذكار الحِسان.. العيد يعنى أن تَصل مَن قطعك.. العيد أن تُعطى مَن منعك.. العيد أن تعفو عمن ظلمكَ.. العيد أن تُخرج البغضاء من قلبك.. العيد أن تدخل الطمأنينة فى قلوب المسلمين.. العيد أن تترك الخلافات وتعمل على توحيد الكلمة.. العيد الحقيقى تعود إلى صفائك، وتقوى إيمانك ويزداد يقينك، ويشب عزمك.. العيد ليس عيد القاطعين لأرحامهم، والمتعالين فى تصرفاتهم.. العيد ليس لهؤلاء، وإن كان الفرح شعارهم، والجديد لباسهم!..

جدير بنا فى هذا اليوم أن نتصل ببعضنا ونهنئ أنفسنا، وألسنتَنا بالكلام الطيب، وقلوبنا بغَسلِها مِن الأضغان والأحقاد والشَّحناء والبغضاء؛ فيجب اليوم أن تتواصل أرحامُنا، وتتقارب قلوبُنا؛ هذا هو المعنى لحقيقى للعيد فى الإسلام.

ما أشد حاجة الأمة الإسلامية أن تفهم العيد فهمًا جديدًا، حتى يأتى العيد ويكون يومًا سعيدًا تنتبه فى الأمة إلى خصالها القوية، وتتجدد فيه همتها وعزيمتها.. لا كما يأتى الآن كئيبًا ممسوحًا من معانيه الرائعة.. الجديد فيه هو الثياب، وزيادة الابتسامة على النفاق.

اللهم هِل علينا هلال عيد الفطر ونحن سعداء نرتدي ثوب الصحة والعافية..ألهمنا الله رشدنا أجمعين، واغفر لنا الماضى، وأصلح الحاضر، وأحسن المستقبل، حتى نعود كما كنا سادة الأمم، وأصحاب العلم، وأرباب السيف والقلم.