في إطار التضافر المعرفي، يعمل باحثون في ميدان الطب( الجهاز العصبي) وعلماء النفس( علم النفس الاجتماعي) وعلماء الدراسات المستقبلية على توظيف “الحدس”(intuition) في مجال التنبؤ في مختلف ميادين الحياة لا سيما التنبؤات التي تعبر عن مستويات دون الاتجاهات الأعظم(Mega-trends) مثل الأحداث والاتجاهات الفرعية والاتجاهات، ثم يتم قياس ومقارنة درجة التقارب والتباعد بين نتائج التنبؤات المبنية على المناهج المنطقية والكمية، وبين النتائج المبنية على الحدس.

وفي إطار هذه الدراسات استقرت مجموعة من المسلمات بين الباحثين:

أولا: إن قدرة الشرقيين (الآسيويين بشكل خاص) على التنبؤ الحدسي تتفوق بشكل يكاد أن يكون مطلقا على الغربيين ، ويربط هذا التيار من العلماء بين هذه النتيجة وبين بنية المنظومة المعرفية لكل من الغربيين والشرقيين، بينما يتفوق الغربيون على الشرقيين في التنبؤ المنطقي(أي المبني على المنهج الأرسطي) من مقدمات وارتباطات وتحليل ونتائج ضمن قواعد ضابطة لهذا المسار.

وأصبح الهدف لهذه الجهود هو كيف يتم تدعيم المنطق الغربي بالحدس الشرقي وصولا لمنهج المنطق الحدسي(intuitive logic).  وقد استندت هذه الدراسات لعدد كبير من الدراسات الميدانية والتي انتهت كلها (دون استثناء حسب معرفتي) إلى نفس النتائج بأن القدرة الحدسية لدى الشرقيين أعلى من القدرة عند الغربية بينما القدرة على البناء المنطقي لفهم الظواهر عند الغربيين هي الأعلى، وتم ربط ذلك بنشاط الخلايا الدماغية ذات الصلة بالتفكير من ناحية وطبيعة البنية الثقافية وترسباتها التاريخية  من ناحية ثانية .

ثانيا: دلت هذه الدراسات على الفارق في ” تحيزات” كل من المنظومة الثقافية الغربية والمنظومة الشرقية، ويعتقد  بعض الباحثين في هذا المجال (مثل Nisbett  ) أن لكل من الثقافات الشرقية والغربية تحيزات مختلفة لمعالجة المعلومات التي تنتج عن تضارب القيم والمعتقدات الثقافية.

فالغربيون وبسبب التركيز الفردي على الذات لثقافتهم ، لديهم ميل لمعالجة الأشياء المركزية وتنظيم المعلومات عبر قواعد ذاتية، على النقيض من ذلك ، يميل الشرقيون بناءً على ثقافتهم الجماعية، إلى اعتبار أنفسهم جزءًا من كل أكبر، مما يؤدي إلى تحيز شامل لمعالجة المعلومات يتم فيه ترميز الكائن والمعلومات السياقية بشكل مشترك ويتم فيه إعطاء الأولوية للمعلومات العلائقية على المعلومات الفئوية.

وعليه فان الغربي يختار متغيراته ويرتبها مدفوعا بفردانيته المتعالية، بينما يتماهى الشرقي مع كونه فتصنع له المماهاة تصوراته دون أن يدرك كيف وصل إلى نتيجته، ويكاد أن يكون التراث الديني هو المسؤول عن كل ذلك، وعليه فالخبرات السابقة  المتواري بعض منها في اللاوعي تشكل مفتاح تنبؤات الشرقي، بينما أغلب تنبؤات الغربي طافحة على سطح وعيه، وترتكز العلاقة السلبية بين المنطق والتدين على تحيز الاستجابات الحدسية على وجه التحديد عندما يكون الحدس والمنطق في صراع.

وتدل دراسة نشرتها “الإمبيريال كوليدج” أن التحيزات السلوكية لا ضعف الذكاء العام هي التي تكمن وراء تأثير التدين – حيث  تفوق الملحدون  في التنبؤ على المجموعة الدينية الأكثر عقائدية بهامش كبير (0.6 انحراف معياري) في مجال التنبؤ المنطقي بينما تفوقت المجموعة الدينية في التنبؤ الحدسي.

ثالثا: الخبرة الحياتية: ترى هذه الدراسات أن المشاعر السلبية أقوى من الايجابية في تشكيل التنبؤ، وعليه فان الحدس لذوي الخبرة التي يطغى عليها الإرث السلبي يكون أكثر حضورا من مجتمعات الخبرات الأقل سلبية، وتزداد كثافة هذه المسالة في لحظات اتخاذ القرار، إذ يشكل “المزاج” (الذي يشكله مخزون اللاوعي) عاملا كامنا في قرارات قد تبدو من الخارج أنها نتيجة لتفكير منطقي بينما هي “حدس شكله المزاج”.

رابعا: التمييز بين الحدس الداخلي والحدس العملي، والملاحظ من هذه الدراسات أن الحدس الداخلي أقوى لدى الشرقيين ،بينما الحدس العملي أكثر حضورا لدى الغربيين، فالثقافة الشرقية مبنية على المجردات أكثر منه الملموس المادي.

خامسا: تبين أن الحدس يزداد دقة إذا تمت إعادة تجربته، ففي دراسة طبقت على  ألف وخمسمائة شخص، وتم الطلب منهم الحدس على وقائع معينة، ثم طُلب من نفس المجموعة إعادة الحدس (وجرت التجربة 3 مرات)، فتم تغيير الإجابة الأولى على النحو التالي: تحسنت إجابة 51% (انتقلوا من الحدس الخطأ إلى الحدس الصحيح) ولكن 25% انتقلوا من الصحيح للخطأ، و24% من خطأ لخطأ آخر.

بناء على ما سبق، تسير الجهود حاليا نحو كيفية دعم التحليل المنطقي بآليات الحدس المعقدة للوصول لدرجة أعلى من الدقة في التنبؤ.