لا تسير الحياة على وتيرة واحدة؛ وإنما تتقلب بين رخاء وشدة، وعافية وابتلاء، وغنى وفقر، وصحة ومرض.. مما لا تخفى معه حكمة الله تعالى في خَلقه؛ مِن جَعْلِ الناس يحتاج بعضهم بعضًا، ومن دَفْعِهم إلى تذكّر نعم الله تعالى واستشعار الافتقار إليه سبحانه، ومن ألا يصابوا بالملل.. إلى غير ذلك من حِكَم ومقاصد ضرورية للفرد وللمجتمع على السواء.

ولا يرتاب عاقل في أن لكل حالة من هذه الحالات ما يلزمها من الصفات والمهارات والشروط؛ حتى نحسن التعامل مع ما نحن بصدده، مستفيدين من منافعه، ومتجنبين أضراره.

وأزمة مثل أزمة “كورونا”- التي يمر بها العالم، وامتدت تأثيراتها لمختلف مناحي الحياة- نحتاج في التعامل معها إلى صفات ومهارات معينة؛ حتى لا نتجمد في مواقعنا، أو نصاب باليأس، وبالحزن الذي يكبّلنا ويجعلنا عاجزين عن التعامل معها.

ومن هذه الصفات والمهارات التي نحتاجها للتعامل مع أزمة “كورونا” وغيرها:

طمأنينة النفس: أي التحلي بالثبات وعدم الاهتزاز، وتسكين النفس من الجزع، والأعصاب من الانفلات.. وإلا فسيكون الانهيار هو البديل، وتفاقم المشكلات هو النتيجة!

وهذه الطمأنينة نستمدها من عدة أمور: معرفية، ونفسية، ومهارية.. منها:

– اليقين بأن الكون كله واقع تحت مشيئة الله سبحانه، لا شيء يندّ عن سلطانه.

– تجديد الصلة بالله تعالى، واستشعار معنى الركون إلى جنابه وهو سبحانه الغني القادر الحافظ الرحمن الرحيم.

الأخذ بالأسباب الصحيحة، والصبر عليها، وعدم تعجل النتائج.

– كثرة الدعاء والتضرع إلى الله تعالى؛ ففي الدعاء سكينة وطمأنينة، كما أنه من الأسباب التي ندافع بها القدر.

– الابتعاد عما يزيد من التوتر والقلق.

فهذه الأمور، وغيرها، تستنزل السكينة على النفس، والطمأنينة على القلب.. وبالتالي، يستطيع الإنسان أن يفكر في الأزمة تفكيرًا صحيحًا، وأن يتعامل معها بما يؤدي إلى تجاوزها وليس إلى تفاقمها.

وهنا، نذكّر بدور العبادات- من الصلاة، والأذكار، ولزوم الاستغفار– في تسكين النفس والقلب، وطمأنة الخواطر؛ فهو سبحانه القائل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28).. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر أن يفزع للصلاة.. بجانب فعل الصالحات، من مساعدة الآخرين والتخفيف عنهم؛ فصَنائِعُ المعروفِ تَقِي مَصارعَ السُّوءِ، كما جاء في السنة.

الأخذ بالأسباب: البعض قد يتوقف كثيرًا عند الأزمة وما تسببه من متاعب، دون أن يفكر جديًّا في العلاج وأسباب الخروج من طوقها! والصواب ألا نطيل الوقوف عند الأزمة، وإنما نفكر في الخطوة التالية، وفيما ينبغي فعله وما يمكن البدء به.. بهذا نكون عمليين لا عاطفيين؛ فالإنسان العاطفي تستغرقه لحظة الحزن، وتحتويه الأزمة بصدمتها الأولى، فيستسلم لمشاعر اليأس والإحباط.. أما العاقل فيدرك أن البكاء على اللبن المسكوب لا يليق، وأن المصيبة قد وقعت بالفعل، وأن ما يجب عمله هو التفكير الجدي في تجاوزها، والبحث عن خطوات عملية ممكنة للبدء بها..

نعم، قد يكون العلاج خطوات كثيرة، وبعضها غير متاح الآن.. لا بأس.. لننظر ما يمكن فعله، ونكل الأمر أولًا وآخرًا إلى الله تعالى، ولا نحمِّل أنفسنا ما لا نطيق؛ فتنهار أعصابنا، وتتراكم علينا النتائج السلبية، ونُفلِت من بين أيدينا ما يمكن إنقاذه!

إن بيتًا شبّ فيه الحريق، لا ينتظر الناس عربة الإطفاء حتى تقوم بإخماد الحريق.. وإنما يبادرون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى يأتي المختصون.. ويسلكون ما يتاح لديهم من أسباب ولو كانت غير كافية.. وهكذا ينبغي أن يكون سلوكنا في أي أزمة من الأزمات.

وإن مريضًا حلَّ به بلاء، ينبغي ألا يفكر كثيرًا في إمكانية شفائه من عدمها؛ وإنما عليه أن يبحث عن أسباب الشفاء فيسلكها.. فإن الأسباب أمرٌ حاضر مشهود، وهي بأيدينا؛ بينما النتائج أمر غائب لا يمكن الجزم به، وإن دلّت عليه الشواهد.. فينبغي أن ننشغل بما بأيدينا ونملكه، عما غاب عنا ولا نتيقن منه.

وبالقَدَر نستدفع القدر.. فالأخذ بالأسباب لا يعني الفرار من قدر الله، كما أن الركون إلى قدر الله لا يعني إهمال السبب! وحين وقع الطاعون بأرض الشام، وقد قصدها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، شاوَرَ أصحابَه في الدخول أو الرجوع، وحين عزم على الرجوع قال له أَبُو عُبَيْدَةَ : فِرَارًا مَنْ قَدَرِ اللَّهِ! فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؛ نَعَمْ، نَفِرُّ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ؛ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ، فَهَبَطْتَ بِهَا وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟. فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ غَائِبًا فِي بَعْضِ حَاجَاتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْه، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ”. فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ. (“التمهيد” لا بن عبد البر)

المرونة في التعامل: الأزمات حدث عارض، أي على خلاف الحالة التي كان عليها الإنسان.. ولهذا، فهي تحتاج إلى مرونة في التعامل معها، وإلى عدم الجمود على وسائل معينة قد أَلِفَها الإنسان في حياته العادية قبل حدوث الأزمة.

فالمرونة- أي عدم الجمود على المألوف- هي السبيل للابتكار، والتعامل مع الموقف الجديد بما يناسبه وليس بما اعتاده المرء!

ففي غزوة الأحزاب مثلاً، شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في كيفية التصدي لهذه الجموع التي حشدتها قريش ومن معها، على نحو غير مسبوق! (عشرة آلاف مقاتل).. فنقل سلمان رضي الله عنه طريقة لم تألفها العرب في حروبها، وهي الخندق، قائلاً: كنا إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا. فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على الفكرة، التي جاءت مناسبة لهذه الحشود الغفيرة.

وفي الأزمات الاقتصادية، أو الأوبئة التي لها آثار اقتصادية، قد يفقد المرء وظيفته، أو تعود وظيفته غير ذات جدوى، أو غير مناسبة لتغطية التكاليف التي تستتبعها الأزمة.. فعليه- حينئذ- أن يتحلى بالمرونة ولا يحصر نفسه في العمل الذي ألفه وأجاده؛ فيتعلم مهنة جديدة، أو يضيف عملاً إلى عمله الأساسي.. وهكذا.

لكن إذا جمد المرء على عمله الذي ألفه، فإنه قد لا يستطيع مواجهة الأعباء الإضافية التي أحدثتها الأزمة.. وهنا، علينا أن نتحلى بالتواضع واللين وعدم الاعتداد الزائد بالشخصية.. هذا الاعتداد الذي يجعل الإنسان يأنف من أعمال لا مفر منها بسبب الأزمة.. فما دام العمل مشروعًا، فلا عيب فيه، وإن كان لا يناسب المرء في الحالة العادية.. لأنها الأزمات، تفرض طبائعها وشروطها.. وعلينا أن نتكيف معها، لأن من الصعب أن نكيف الأزمةَ معنا..!

استشراف المآل: بجانب هذا، على الإنسان أن يمدّ بصره خارج حدود الأزمة ونطاقها الزمني، ليتدبر في مآلها ومستقبلها، ويقلّب الفكر في تطوراتها واحتمالاتها.. لأنه كلما أمعن النظر في ذلك، استطاع أن يسلك من الأدوات ما يخفف به من تفاقم الأخطار وزيادة الأضرار.. ولربما استطاع أن يستبق الأزمة بخطوة فيقدر على تلافي آثارها الضارة، ويحوّل المحنة إلى منحة.

والمسلم مطالب بالنظر للمآل، حتى في أداء الأوامر والتوجيهات؛ فهو لا يتحرك في فراغ، وإنما وسط ظروف وأجواء ينبغي عدم تجاهلها.. ولعل الآيةَ الكريمة: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ}، والحديثَ النبوي الذي يجعل لتغيير المنكر درجات، ما بين التغيير باليد والإنكار بالقلب.. لعل ذلك مما يعِّود المسلم على أن يضع في اعتباره مآلَ الفعلِ الذي ينتويه، وتأثيرَ الخطواتِ التي يعتزمها.

بهذه الصفات والمهارات نحسن التعامل مع الأزمات، ونقلل من أخطارها.. ونستوعب الحياة بتقلباتها وتغيراتها.. فالتقلبات والتغيرات من سنة الحياة، إذ هي لا تعرف السكون والدعة، وإنما طبيعتها الحركة الدائبة.. وعلينا أن نستعد لكل تقلب أو تغير بما يلزمه ويلائمه..