لقد كانت تجربة، ولكل تجربة حصيلة، ولكل حصيلة تقييم ودلالة. ذلكم هو ملخص المحاور التي ينبغي تناولها بخصوص التعليم عن بعد، قد فرضته علينا جائحة كورونا فاخترنا أو اختارونا !

  فالتعليم عن بعد شبيه بالتواصل عن بعد سبق وأن كان وما يزال معروفا في تاريخ الفكر الإسلامي وعالم الروح والتربية السلوكية عند الصحابة وصلتهم بالرسول أو صلتهم ببعضهم البعض، كما وردت بذلك الأخبار و “يا سارية الجبل” في قصة عمر بن الخطاب.

لكن تجربة التدريس بعد، وأخص الجامعي منه في بلدنا المغرب الحبيب وكذلك باقي البلدان العربية ، وبواسطة الوسائل السمعية البصرية أو السمعية فقط، أو النصية المرقونة والمبينة عبر برامج إلكترونية عصرية ومتطورة، فهذا ما لم يكن يستعد له غالبية الأساتذة المدرسين، والذين في عادتهم لم يكونوا يوظفون سوى السبورة السوداء والطباشير البيضاء مع ما يثيره من غبار وما يرسمه على أنوف الأساتذة من بقع وأشكال مبرقعة كأن الواحد منهم قد خرج من المطحنة !!!.

ولم يتطور الوضع في بلدنا هذا وفي بعض المؤسسات دون الأخرى إلا بعد أن استبدلت السبورة البيضاء البراقة بالسوداء  الداكنة والقلم (الفوثر) الأسود بالطباشير. وبعدما أضيفت أجهزة محتشمة تعمل على عكس الصورة من جهاز الكمبيوتر على الشاشة النسيجية المعلقة على الجدار…وهذه نعمة محدودة في حد ذاتها لا يمكن نكرانها. ومع هذا بقيت نكهة الطباشير مع السبورة السوداء هي المفضلة والأكثر جاذبية وإثارة للانتباه والمتابعة لدى كثير من المدرسين والمتمدرسين،نظرا لما تفرضه من حركة وصوت احتكاك يوقظ الوسنان وينبه الغافلين.

ومن العيب كل العيب أن يُنتقد الأساتذة المشاركون في هذه العملية وتستنقص أعمالهم من خلال رؤى مزاجية وافتراضية وهمية لا تمت إلى الواقع والميدان بصلة،كما أنها تبقى خارج الحرم الجامعي ومقتضياته ومتطلباته، تماما كما فعل البعض ممن انبروا لتقييم الحصيلة قبل النظر في الوسيلة، وإسقاط الرؤية عوض الاندماج في الركب وملاحظة المجهودات والمكتسبات وما تم وما هو آت.بل منهم من افترض من الأستاذ أن يبتسم عنوة لإرضاء السبورة من غير طلبة، حتى سيبدو،إن فعل، وكأنه مجنون،أو جانكيشوط في محاربة الطواحين.على اعتبار أن الابتسامة قد تدخل في المقتضيات البيداغوجية والتواصلية…

فالظرف قد كان طارئا واستعجاليا وجديدا، تقنيا وفنيا ونفسيا تربويا وزمانيا ومكانيا.ومع هذا فقد أدى السادة الأساتذة الفضلاء، مصابيح البلد، ما كان يجب عليهم.كل أدلى بدلوه واجتهد باجتهاده وتفاعل بتفاعله واحترز باحترازه ودقق بتدقيقه وتنفس بنفسه وأشار بإشارته وحدق بحدقته.فكانت النتيجة ولا بد إيجابية، والخطاب بالتأكيد قد وصل، والمعنى قد ترسخ، والمغلق قد فتح،والعسير قد يسر،والمشكل قد حل. وبذلك كانوا أبطال المرحلة بامتياز !!!

لكن كل هذا المكتسب كان من الممكن أن يكون مضاعفا لو أن!

  1. لو أن العملية قد كانت مبرمجة ومخططا لها منذ زمن بعيد، على سبيل الرؤية الشمولية بعيدة المدى في باب التعليم وتطوير مناهجه وآفاقه،ومن دون انتظار حالات الطوارئ والمستجدات العابرة،التي بعدها قد تعود حليمة إلى عادتها القديمة.
  2. لو أن التنسيق كان قائما فيما قبل بين وزارة التعليم والإعلام كشراكة رسمية إما على مستوى نقل المحاضرات العادية أو المنتقاة مباشرة عبر القنوات المخصصة لذلك.  وذلك إما بتوظيف الطاقم التلفزي أو الإذاعي، أو بتدريب أطقم محلية جامعية تقوم بالعملية وتعمل على تسجيل وإخراج العمل باحترافية حتى يعطى للعمل قيمته ومهنيته.
  3. لو كانت هناك دراسة متخصصة لمستويات التفاعل البيداغوجي بين الملقي والمتلقي ونوعية المادة الملقاة وطريقة توصيلها كما ينبغي.وليس الأمر كما قد أطلق على عواهنه، في القنوات الباثة لهذا العمل،لا يميز فيه بين النظري والتطبيقي، ولا بين الجامعي والإرشادي الوعظي، ولا بين التقني الميكانيكي أو التقني الرقمي.إذ لكل تخصص طريقته ولكل ميدان خصوصيته في التوصيل والعرض والتوضيح.فما يصلح للقراءة قد لا يستفاد منه عند المشاهدة، وما هو سمعي قد لا يستفاد منه حينما يصبح بصريا.فلربما يكون العرض السمعي أكثر إفادة وتلقينا من العرض السمعي البصري أو البصري الصوري المحض.وهذا يحتاج إلى تقييم واستشارة لأهل التجربة الميدانية.
  4. لو كان العمل تفاعليا حقيقيا ومباشرا بين الطلبة والأستاذ، إما عبر تزويد الأستاذ بأجهزة متطورة كفيلة بتقريب الصورة وتجويد الصوت ومسايرة الحركة، أو عبر اقتراح حضور مجموعة محدودة من الطلبة، الذين سيكونون متفاعلين مع الأستاذ كمناقشة وأسئلة وأجوبة.بحيث إذا ابتسم الأستاذ فيكون صادقا وكذلك إذا عبس وتقطب.أو رفع الصوت وأخفض.وبهذا يتم التواصل بكل معانيه ويرتقي المستوى بمفاهيمه ومبانيه.
  5. لو كان البث مجزأ حسب التخصصات وتوقيت الأساتذة المشاركين مع البرمجة المعلنة من قبل من طرف القناة أو بالتنسيق مع الجامعات والأساتذة لكي يعلموا الطلبة بموعد دروسهم.ولكن هذا لم يحصل بل أدمجت الدروس ببعضها البعض كتركيم لا معنى له قد يطال الخمس ساعات أو أكثر، بل حتى نشرها في اليوتوب لم تكن موازية لا لدروس الملقين ولا لطبيعة المواد المتخصصة.  فحدث خبط وخلط في المواضيع،وكذلك في المزج بين الفصول مع اختلاف التخصصات.وهذا لم يكن حافزا للمتابعة لا بالنسبة إلى الطالب أو الأستاذ حتى يقيم عمله بنفسه.وكأن المشرفين على العملية لم يسعهم سوى تفريغ التسجيلات وليس بعدها إلا اللامبالاة.

  

التجربة بين التفاعل واقتراح بدائل

 هذه “اللولويات” قد كنت دائما بصفتي أستاذا مدرسا أقترح بعضها من قبل وأتمنى لو تبادر الوزارة الوصية لتفعيلها، ولو حلقة في الأسبوع عبر المدرجات، من باب تقريب الجامعة من المحيط العام وإثارة الاهتمام بالأستاذ الجامعي وخصوصيته المعرفية والتحصيلية والمنهجية،والذي قد كان من المفروض أن يصبح هو الموجِّه لا الموجَّه وهو المؤطِّر لا المؤطَّر،وهو الفاعل لا المنفعل أو المفعَّل.

 ولكن بما أنه قد بقي على الهامش قسرا فقد تحول إلى متصنع ومحاول وباحث عن موقعه لا عن واقعه.حتى ابتسامته وحركته عند الإلقاء قد غلب عليها في كثير من الأحيان طابع التكلف ومحاولة إرضاء الجمهور ونيل إعجابهم، كأنه ممثل أو مسرحي لا يسعى سوى للإثارة.وهذا ما قد يؤثر على إلقائه وآفاق تلقينه بشكل أو بآخر.

 ولربما قد كان التواصل السمعي أكثر إفادة من ذاك البصري المتحرك،وذلك لما له من إيحاءات تجعل الطالب يتفاعل مع الموضوع بتركيز أكبر، وفي بعض المواد القابلة لأن تكون سمعية أو قراءة حرفية أكثر منها بيانية ورسمية. وهذا ما لاحظته من خلال اتصالي الخاص بطلبتي الأعزاء، إما عبر الموقع الرسمي الذي خصصته الوزارة بسائر الجامعات وإما عن طريق استحداث مجموعات من طرف الطلبة عبر تقنية الواتساب، والتي قد كان فيها التفاعل جيدا جدا والاستجابة فيه آنية وبسرعة.  حتى إن بعض الطلبة قد كانوا يسألون عن جزيئات المواضيع ثم يعاد شرحها مرات متعددة. بل إن الكثير منهم قد أبدوا ارتياحهم نحو العملية.  خاصة وأن الدروس قد كانت صوتية ومعززة ببيانات مرسومة على برنامج الباور بونت. حيث يوظف الطالب مجهودين في آن واحد. الأول عبر السماع والتركيز حفظا وفهما،والثاني عبر حل ألغاز الرسم البياني الموافق والملخص والمرمز لما يسمعه، فتكون النتيجة مفرحة وإيجابية مائة بالمائة !.

هذا بالنسبة إلى لطلبة، أما بالنسبة إلى لأستاذ فهي أيضا قد تكون إيجابية إلى حد ما، بل قد تجعل منه،  وكتجربة شخصية،أكثر تفننا واجتهادا في شرح المادة والتوسع في تفريع أبوابها ومضامينها، من غير تكلف ولا تصنع ولا توهم لملاحظة الطالب لشكله أو لبسه وأساريره.  

تلكم هي بعض الانطباعات الشخصية حول تجربة التعليم الجامعي عن بعد، قد أكون موفقا أو غير ذلك، وقد كانت مجرد تجربة لها ما لها وعليها ما عليها، ولكنها حركت حماسا والتماسا واقتباسا وأثارت التباسا، مما يستدعي مراجعة شاملة وإعادة تقييم لمناهج التدريس وتطويره، مع الاعتراف بأنه هو الأساس والعمدة في كل نهضة ومرحلة سواء كانت منتجة أم حرجة.والله الموفق للصواب.