لا تنفك الحياة الدنيا عن تقلبات وأحوال مختلفة؛ من الصحة والمرض، والانبساط والاغتمام، والسعة والضيق.. هذه طبيعتها اللازمة، وتلك صفتها التي لا سبيل إلى الهرب منها.. وأما السعادة التامة الكاملة فإنها في الدار الآخرة؛ “فالسعادة الأخروية بقاء بلا فناء، ولذة بلا عناء، وسرور بلا حزن، وغنى بلا فقر، وكمال بلا نقصان، وعز بلا ذل”([1]).

ولهذا التقلب والاختلاف في الأحوال، فوائد للفرد والمجتمع، تتجاوز المعاني الشائعة في ذلك- من إكساب القدرة على الصبر، ومن التمييز والامتحان- إلى معانٍ أخرى أشار إليه الماوردي بقوله: واعلم أن الدنيا لم تكن قط لجميع أهلها مُسْعِدَةً، ولا عن كافة ذويها مُعْرِضة؛ لأن إعراضها عن جميعهم عطبٌ، وإسعادها لكافتهم فساد لائتلافهم بالاختلاف والتباين، واتفاقهم بالمساعدة والتعاون. فإذا تساوى جميعهم لم يجد أحدهم إلى الاستعانة بغيره سبيلاً، وبهم من الحاجة والعجز ما وصفنا، فيذهبوا ضَيْعَةً ويهلكوا عَجْزًا. وإذا تباينوا واختلفوا صاروا مؤتلفين بالمعونة متواصلين بالحاجة؛ لأن ذا الحاجة وُصُولٌ، والمحتاج إليه موصول. وقد قال الله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118، 119). قال الحسن: مختلفين في الرزق؛ فهذا غني وهذا فقير. ولذلك خلقهم، يعني للاختلاف بالغنى والفقر. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (النحل: 71)([2]).

وإذا كانت هذه هي طبيعة الدنيا التي لا فكاك منها؛ فيلزم للعاقل أن يستعد لكل حالة بما يلائمها، وأن يتهيأ لهذا التقلب والاختلاف في الأحوال؛ لأنه إن رتب نفسه على حالة واحدة، لاختل عمله وسعيه، واضطربت نفسه، عندما تواجهه الحالة المقابلة لتلك التي رتب نفسه عليها.

فمثلاً، لو ظن أن الدنيا دار عافية وصحة دائمًا، اغترارًا بما يجده في نفسه من قوة الشباب وحيويته؛ فإنه عندما يصيبه المرض- إما بطارئ لم يمكن دفعه، أو بطبيعة التقدم في السن- سيجد نفسه عندئذ قد أفلتت منه أحواله، وربما وصل لدرجة من القنوط واليأس دفعته للانتحار، أو لما يعرف في بلاد غربية بـ”القتل الرحيم”؛ تخلصًا مما يجد من ألم، وهربًا من تعب لا يقوى على احتماله!

أما العاقل فإنه يدرك أن ما فيه من صحة هو حال لا تدوم، وأنها لا بد متغيرة.. ولهذا، فهو يجد لديه من الاستعداد النفسي ما يخفف به أثر المرض إن نزل به، ويستعين به على التصبر والاحتمال، وعلى اتخاذ الأسباب المعينة على السلامة والنجاة.

ونقول مثل ذلك في حالتي الفقر والغني، أو الفرح والحزن، أو السعة والضيق.. وغيرها من الحالات المتقابلة التي هي من طبيعة الحياة الدنيا، دار الفناء والنَّصَب.

مع المفهوم: من المهم أن نعرف مصطلح “الأمان النفسي”؛ حتى نقف على طبيعته وحاجتنا إليه، وعلى أثره وما يوجبه من التهيؤ والاستعداد..

أما “الأمان” فهو اسم من أمِنَ يأمَن: أَمْنًا وأمَانًا وأمَانة؛ أي اطمأَنَّ وَلم يَخَفْ، فهو آمِنٌ، وأَمِنٌ، وأمِينٌ. يقال: لك الأَمانُ: أى قد آمنْتُك([3]). فالْهَمْزَةُ وَالْمِيمُ وَالنُّونُ أَصْلَانِ مُتَقَارِبَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَمَانَةُ الَّتِي هِيَ ضِدُّ الْخِيَانَةِ، وَمَعْنَاهَا سُكُونُ الْقَلْبِ، وَالْآخَرُ التَّصْدِيقُ. وَالْمَعْنَيَانِ مُتَدَانِيَانِ([4]). وَآمَنْتُ غَيْرِي مِنَ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ. وَالْأَمْنُ: ضِدُّ الْخَوْفِ. وَالْأَمَانَةُ: ضِدُّ الْخِيَانَةِ. وَالْإِيمَانُ: ضِدُّ الْكُفْرِ. وَالْإِيمَانُ: بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، ضِدُّهُ التَّكْذِيبُ([5]).

وأما “النفس” فلها تعريفات متعددة في اللغة والاصطلاح. فالنون والفاء والسين أَصْلٌ وَاحِدٌ يدل عَلَى خُروجِ النَّسِيمِ كَيف كان، مِنْ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهَا، وإليه يَرجعُ فروعُه. مِنْهُ التَّنَفُّسُ: خروج النَّسِيمِ مِنَ الْجَوْفِ. وَنَفَّسَ اللهُ كُرْبَتَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي خُرُوجِ النَّسِيمِ رَوْحًا وَرَاحَةً. وَالنَّفْسُ: الدَّمُ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا فُقِدَ الدَّمُ مِنْ بَدَنِ الإِنْسَانِ فَقَدَ نَفْسَهُ([6]).

كما تطلق النفس على الروح، وعلى الهواء الداخل والخارج في الجسم. جاء في (المفردات): النَّفْسُ الرُّوحُ في قوله: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ}. والنَّفَسُ الريحُ الداخلُ والخارجُ في البدن من الفَمِ والمِنْخَر؛ وهو كالغذاء للنفس، وبانقطاعه بطلانها([7]). وخلص (المعجم الفلسفي) إلى أن النفس مرادفة للروح ومقابلة للمادة؛ فالنفس هي الروح، والروح هي النفس، أو ما به حياة النفس([8]). وقد تُطلَق على ذات الشيء وعينه؛ يقال: جاء هو نفسُه أو بنفسِه([9]).

وعلى هذا فيمكن تعريف “الأمان النفسي” بأنه: الطمأنينة النفسية أو الانفعالية، وهو الأمن الشخصي أو أمن كل فرد على حدة، وهو حالة يكون فيها إشباع الحاجات مضمونًا وغير معرض للخطر، وهو محرك الفرد لتحقيق أمنه. وترتبط الحاجة إلى الأمن ارتباطًا وثيقًا بغريزة المحافظة على البقاء([10]).

شرط لصلاح الدنيا: للإنسان عدة حاجات أساسية لا تستقيم حياته من دونها؛ والتمتع بالأمان النفسي إحدى هذه الحاجات بجانب توافر القدر اللازم من الطعام والشراب. وإذا كان جسد الإنسان يحيا بالطعام والشراب، فإن نفسه تحيا بالأمان؛ الذي هو شرط ضروري للشعور بالذات، والإقبال على الحياة، والتفاعل مع المجتمع.

وقد اعتنى القرآن الكريم في كثير من آياته بالحديث عن الأمن وضرورته وأهميته، وامتن الله عز وجل على قريش بهذه النعمة التي متّعهم بها، وجعلهم بسببها يغدون ويروحون بتجارتهم شمالاً وجنوبًا غير قلقين من اعتداء أو تهديد؛ فهو جيران البيت الحرام، والقائمون على شئونه وراحة زوّراه وعمّاره؛ فقال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)} (سورة قريش).

وجاء في السنة النبوية ما يؤكد فضل هذه النعمة وأهميتها، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أصبحَ معافًى في بدنِه، آمنًا في سِربِه، عندَه قوتُ يومِه؛ فَكأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا بحذافيرِها” (أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري).

وجعل الماوردي نعمة الأمن مما لا تصلح الحياة إلا بها؛ فقال: “اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة؛ ستة أشياء هي قواعدها، وإن تفرعت؛ وهي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح”([11]).

وبيَّن المقصود من “الأمن العام” فقال: “وأما القاعدة الرابعة: فهي أمن عام تطمئن إليه النفوس وتنتشر فيه الهمم، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف. فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة. وقد قال بعض الحكماء، الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش؛ لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قوام أودهم وانتظام جملتهم؛ لأن الأمن من نتائج العدل، والجور من نتائج ما ليس بعدل”([12]).

وجاءت الدراسات النفسية والاجتماعية المعاصرة تؤكد هذا المعنى وتفصله، وتشير إلى ارتباط نعمة الأمن بمجمل أحوال المجتمع، وإلى أثرها في أن يحيا الإنسان حياة طبيعية فاعلة.

فالحاجة إلى الأمن، أي الحاجة إلى الشعور بأن البيئة الاجتماعية بيئة صديقة، وشعور الفرد بأن الآخرين يحترمونه ويقبلونه داخل الجماعة، هي من أهم الحاجات الأساسية اللازمة للنمو النفسي السوي والتوافق النفسي والصحة النفسية للفرد. وتظهر هذه الحاجة واضحة في تجنب الخطر والمخاطرة وفي اتجاهات الحذر والمحافظة. والحاجة إلى الأمن تستوجب الاستقرار الاجتماعي والأمن الأسري. والفرد الذي يشعر بالأمن والإشباع في بيئته الاجتماعية المباشرة في الأسرة يميل إلى أن يعمم هذا الشعور، ويرى البيئة الاجتماعية الواسعة مشبعة لحاجاته، ويرى في الناس الخير والحب ويتعاون معهم، والعكس صحيح. وكلنا ولاشك في حاجة إلى الأمن الجسمي والصحة الجسمية والشعور بالأمن الداخلي وتجنب الخطر والألم، وإلى الاسترخاء والراحة وإلى الشفاء عند المرض والحماية ضد الحرمان من إشباع الدوافع، والمساعدة في حل المشكلات الشخصية([13]).

أي أن التمتع بالأمان النفسي ينعكس على إحساس الفرد بذاته، وعلى دوره في المجتمع ونظرته إليه.. وهذا ما يجعل المجتمع، بالتالي، مطالَبًا بالسعي لتوفير هذا الأمان لأفراده؛ حتى لا يتأثر سلبًا عند غيابه لديهم، بأن يصبحوا ناقمين على المجتمع، غير فاعلين فيه.


([1]) أبو حامد الغزالي، ميزان العمل، ص: 8، دار الكتب العلمية، تخريج أحمد شمس الدين.

([2]) الماوردي، أدب الدنيا والدين: 132، دار مكتبة الحياة، 1986م.

([3]) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ص: 27، 28، مكتبة الشروق الدولية، ط4، 2008م. بتصرف يسير.

([4]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، 1/ 133، دار الفكر، 1979م، تحقيق: عبد السلام هارون.

([5]) ابن منظور، لسان العرب، 13/ 21، دار صادر، ط3، 1414 هـ.

([6]) معجم مقاييس اللغة، 5/ 460.

([7]) الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص: 818، دار القلم، ط1، 1412هــ، تحقيق: صفوان عدنان الداودي.

([8]) جميل صليبا، المعجم الفلسفي، 2/ 483، المعجم الفلسفي، جميل صليبا، 2/ 481، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982م.

([9]) المعجم الوسيط، ص: 979.

([10]) د. حامد زهران: “الأمن النفسي دعامة للأمن القومي العربي”، نقلاً عن: الشعور بالأمن النفسي وتأثره ببعض المتغيرات لدى طلبة جامعة النجاح الوطنية، إياد أقرع، ص: 11، رسالة ماجسير، 2005، pdf على “الإنترنت”.

([11]) أدب الدنيا والدين، ص: 133.

([12]) المصدر نفسه، ص: 142.

([13]) د. حامد زهران، الصحة النفسية والعلاج النفسي، ص: 33، عالم الكتب، ط4، 2005م. بتصرف يسير.