إذا كان “الأمان النفسي” يعني الطمأنينة النفسية التي تتحقق لكل فرد على حدة، بحيث يكون فيها إشباع الحاجات مضمونًا وغير معرض للخطر؛ فإن مما لا شك فيه أن التمتع بهذا “الأمان النفسي” ينعكس إيجابًا على إحساس الفرد بذاته، وعلى دوره في المجتمع ونظرته إليه.

وهذا ما يجعل المجتمع، بالتالي، مطالَبًا بالسعي لتوفير “الأمان النفسي” لأفراده؛ حتى لا يتأثر- أي المجتمع- سلبًا عند غياب الأمان لديهم، بأن يصبحوا ناقمين على المجتمع، غير فاعلين فيه..

فالأمان النفسي عملية مركبة يشترك في تحقيقها أطراف عدة، تشمل الفرد والمجتمع، كما تشمل المجتمع في مستوياته الرسمية والشعبية.

في المنهج الإسلامي

من المؤكد أن المنهج الإسلامي له إسهام متميز في توفير “الأمان النفسي” لدى الفرد والمجتمع على السواء؛ وذلك من خلال ما يغرسه فيهما من جملة من العقائد والسلوكيات التي تنعكس إيجابًا على أحوالهما، لاسيما عند المحن.. ويمكن تفصيل ذلك في عدة نقاط:

الإيمان بالقضاء والقدر: فهذا الاعتقاد يحصّن المسلم عند الأزمات، ويجعله يستقبلها برضا وتسليم، لأنه يؤمن بأن الكون لا يجري فيه ما يندّ عن علم الله تعالى وسلطانه؛ ومن ثم، لا داعي للقلق والسخط، أو اليأس والقنوط: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد: 22، 23).

جاء في تفسير النسفي: “يَعْنِي: إِنَّكُمْ إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّرٌ، مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ؛ قَلَّ أَسَاكُمْ عَلَى الْفَائِتِ، وَفَرَحُكُمْ عَلَى الْآتِي؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا عِنْدَهُ مَفْقُودٌ لَا مَحَالَةَ، لَمْ يَتَفَاقَمْ جَزَعُهُ عِنْدَ فَقْدِهِ؛ لِأَنَّهُ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ الْخَيْرِ وَاصِلٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ وُصُولَهُ لَا يَفُوتُهُ بِحَالٍ؛ لَمْ يَعْظُمْ فَرَحُهُ عِنْدَ نَيْلِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ عِنْدَ مَنْفَعَةٍ تُصِيبُهُ، وَيَحْزَنُ عِنْدَ مَضَرَّةٍ تَنْزِلُ بِهِ؛ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَرَحُ شُكْرًا، وَالْحُزْنُ صَبْرًا، وَإِنَّمَا يُذَمُّ مِنَ الْحُزْنِ الْجَزَعُ الْمُنَافِي لِلصَّبْرِ، وَمِنَ الْفَرَحِ الْأَشَرُ الْمُطْغِي الْمُلْهِي عَنِ الشُّكْرِ”([1]).

بل إن المسلم يدرك أن صبره في المحن والشدائد سبيل إلى مرضاة الله وثوابه؛ فعن أبي سعيد وأبي هُرَيْرة رضيَ اللَّه عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها، إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه” (متفق عليه)

• فلسفة الابتلاء: تقوم هذه الفلسفة في الإسلام على أن الشدائد خير للإنسان في كل حالاتها؛ فهي إما أن ترفع درجاته، أو تحط من خطاياه.. بل إن المسلم لينظر للنعم نظرته للنقم، من حيث إن كليهما سبب في الأجر؛ فالنعم يستقبلها بشكر يمنحه الأجر من الله، والثانية يستدفعها بصبر يمنحه الأجر من الله؛ ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ” (رواه مسلم من حديث صُهَيْبِ بْنِ سِنَان).

• خطوات عملية: إن منهج الإسلام في تشريع الزكاة وفي الحث على الصدقة، والتعاون عند الأزمات؛ من شأنه أن يؤدي إلى تماسك المجتمع، وشعور أفراده بعضهم ببعض؛ وبالتالي لا يقع أحدهم فريسة العجز والحرمان، مما يؤثر سلبًا على شعوره بالأمان النفسي، ويصيبه بالقلق والاضطراب.. بل إن الإسلام ليجعل هذا التكاتف من دلائل الإيمان؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما آمن بي مَن بات شبعانَ وجاره جائعٌ إلى جنبهِ وهو يعلَمُ به” (رواه الطبراني في الكبير عن أنس بن مالك).

وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ”. قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ (صحيح مسلم).

قال النووي: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْجُودِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرُّفْقَةِ وَالْأَصْحَابِ، وَالِاعْتِنَاءِ بِمَصَالِحِ الْأَصْحَابِ، وَأَمْرُ كَبِيرِ الْقَوْمِ أَصْحَابَهُ بِمُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِ، وَأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ بِتَعَرُّضِهِ لِلْعَطَاءِ، وَتَعْرِيضِهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ) أَيْ: مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ. وَفِيهِ مُوَاسَاةُ ابْنِ السَّبِيلِ، وَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ رَاحِلَةٌ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ، أَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي وَطَنِهِ، وَلِهَذَا يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ([2]).

وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم سلوك الأشعريين عند الأزمات، من التعاون والتكاتف؛ فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الأشعريين إذا أَرْمَلُوا في الغزو، أو قلَّ طعام عِيَالهم بالمدينة؛ جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسويّة، فهم مني وأنا منهم” (متفق عليه).

فهنا نرى الإسلام يشرّع خطوات عملية، بعضها دائم مثل الزكاة، والآخر بما يناسب الحدث الطارئ، أي الزيادة في الإنفاق والتصدق.. حتى لا يعجز أحد من أبناء المجتمع عن مواجهة الأزمة الطارئة. ولا شك أن التعاون في توفير الحاجات الأساسية تنعكس آثاره إلإيجابية على النفس، فيندفع عنها القلق والاضطراب، وتتمع بالأمان والاتزان النفسي عند المحن والملمات.

تكامل الجهود

بهذا نرى أن “الأمان النفسي” عند المحن يتحقق بخطوات في الفكر والسلوك، تتوزع بين الفردية والمجتمعية.

بمعنى أن الفرد عليه دور في تصحيح فكره فيما يتصل بطبيعة الحياة، وفلسفة الابتلاء، واليقين بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا.. بجانب اتخاذ الأسباب مثل التداوي عند المرض، والسعي عند الافتقار..

كما أن المجتمع أيضًا عليه دور؛ من حيث ترسيخ قيم التعاون والتكافل، وحضّ ذوي اليسار على بذل ما منحهم الله تعالى للمحتاجين، طمعًا في الأجر والمثوبة..

ومع هذين الدورين يأتي دور مؤسسات الدولة؛ فترعى ذلك كله وتحفّزه وتنظّمه، وتسدّ الخلل، وتستشرف التطورات، وتأخذ بزمام المبادرة بما لديها من إمكانات.. حتى تتكامل الجهود في تحقيق “الأمان النفسي”؛ الذي كان ولا يزال إحدى الضرورات الأساسية للإنسان، مهما أحرز سبقًا في عالم المادة والأشياء..!


([1]) تفسير النسفي، 3/ 441، دار الكلم الطيب، ط1، 1998م، تحقيق: يوسف بديوي.

([2]) شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 33، دار إحياء التراث العربي، ط2، 1392هـ.