تحدث الكثير عن العقل وفلسفه فلسفة ونقده نقدا وشيأه تشييئا ،فمنهم من اعتبره جوهرا ومنهم من جعله وظيفة عامة ومنهم من أخضعه للتطور المادي من أفعال منعكسة إلى غريزة ثم المجموع من هذا وذاك.وكل هذا وذاك رمي في عماية وتخمين يكاد يشبه التخمين حول كورونا وطبيعتها وحركاتها غير المضبوطة.لكن العبرة تبقى دائما محصورة في الوظيفة والتمرة ومذاقها ونتاجها.فناولني تمرة أقول لك بعد الذوق والتمثل هل هي رطب أم حفالة كحفالة الشعير.

وهذا هو الميزان السليم لتقييم العقل وقيمته ومكانته في الحياة الخاصة والعامة ،خاصة وإننا في زمن نطير فيه فوق العقل والمعقول ،ونمتطي جواد التسيب والسيول، ونستهين بالفضائل ونستحلي الرذائل بشكل غير مسؤول…

 المحددات النفسية لأخلاق الطبع والتطبع

 حينما كان أبو محمد بن علي بن حزم الأندلسي يبحث في الجانب الأخلاقي من النشاط الإنساني ،كباقي الفرسان في الميدان، بقي وفيا للمنهج الذي يعتمد على التعليل النفسي للظواهر الأخلاقية وآفاقه المعرفية والسلوكية وخاصة في كتابه “الأخلاق والسير في مداواة النفوس“،فنراه يقر بأنه توجد في الإنسان أخلاق غريزية مطبوعة في النفس منذ البداية وأخرى مكتسبة ومتعود عليها حتى صارت متطبعة في النفس.

1)  أوجه التمييز بين الطبع والتطبع

وعندما نتحدث عن أخلاق الطبع لديه فلا ينبغي أن يفهم منه الإشارة إلى تلك الفضائل الأصول ذات الارتباط الوثيق بقوى النفس،كما درج عليه كثير من المفكرين في تقسيم الفضائل والرذائل بحسبها[1].

بل إنها هنا مظهر كامل للعقل الحقيقي في مفهومه ،والذي بواسطته تنضبط الأخلاق والسلوك؛في شكل قواعد علمية متفق عليها قد تشمل كل البشر رغم وجود اختلافات في بعض طبائعها،وليس الأمر كما يرى البعض “أن الكائنات الإنسانة ليست سيلا لا ينتهي من التوائم المتماثلة ولكنها تختلف اختلافا عميقا فيما بينها”[2].

فالعقل عنده هو الذي يلتزم الفضائل ويجتنب الرذائل وهو الذي يقف عند طاعة الله تعالى ولا يعصيه.

كما ذهب في هذا إلى تفسير قول الله تعالى:”إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد” إلى أنه أراد بذلك العقل،فالعاقل من أطاع الله تعالى،لأن طاعة الله عز وجل هي جماع الفضائل واجتاب الرذائل،وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم لا إله إلا هو،فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به أو حض عليه ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه.

وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وافق في استجلاب حظه فيها من علو صوت أو عرض جاه أو نمو مال أو نيل لذة من طاعة أو معصية فليس ذلك عقلا! بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار وقائد إلى الهلاك في دار الخلود”[3].

فالفضائل في حقيقتها ليست إلا طاعة الله تعالى،وكل عقل لم يلتزمها فليس بعقل مميز للإنسان،وإن بلغ ما بلغ من الذكاء وحسن التدبير في المعاملات الدنيوية.

إذ العقل هو استعمال الطاعات والفضائل وهو غير التمييز لأنه استعمال ما ميز الإنسان فضله فكل عاقل مميز وليس كل مميز عاقل، وهو في اللغة المنع،تقول عقلت البعير أعقله عقلا وأهل الزمان يستعملونه فيما وافق أهواءهم في سيرهم وزيهم والحق هو في قول الله تعالى:”ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون”يرد الذين يعصونه ،وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب ما قابل اللفظ من ذلك”[4].

بهذا يكون العقل لديه يمثل قوة خاصة من قوى النفس لها علاقة بالأخلاق خصوصا، فليس كل مميز عاقل ولكن كل عاقل مميز- كما سبق وقلنا- لأن العقل الحقيقي هو الذي ينقاد لطاعة الله تعالى،أما التمييز الذي يتمتع به كل الناس سليمي البنية العقلية أو العصبية  فهو الحالة النفسية المحضة المميزة عن التي ذات الارتباط بالجانب الأخلاقي، ولهذا فسلامة تركيب هذا العقل ستؤدي لا محالة إلى ترسخ الأخلاق لدى صاحبه.

بحيث إذا وجد هذا النوع من التعقل لدى الإنسان فإن صاحبه : “لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد، وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله تعالى بها عن السباع والبهائم والجمادات وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة.

فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل فليعلم أن  النمر أجرأ منه،وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه،ومن سر بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسما،ومن سر بحمله الأثقال فليعلم أن الحمار أحمل منه،ومن سر بسرعة عدوه فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدوا منه ومن سر بحسن صوته فليعلم أن كثيرا من الطير أحسن صوتا منه وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته،فأي فخر وأي سرور في ما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه؟لكن من قوي تمييزه واتسع علمه وحسن عمله فليغتبط بذلك فبأنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس”[5].

هذا المفهوم للعقل قد خصص له في كتابه الأخلاقي فصلا عنونه ب”العقل والراحة“ذكر فيه أنه أداة أخلاقية قبل أن يكون أداة تمييز ومعرفة ووسيلة للتفكير واكتشاف المعلومات.

فهو قد تتباين قوته بحسب انطباعه بالفضائل أو خلوه منها،وأكثر قبولا للانطباع في الإنسان:فضيلة العدل التي تتوسط كل الرذائل،بحيث يرى أن:من أفضل نعم الله  على العبد أن يطبعه على العدل وحبه وعلى الحق وإيثاره!.

فيقول عن نفسه بخصوص هذه الفضيلة :”فما استعنت على قمع هذه الطوالح الفاسدة وعلى كل خير في الدين والدنيا إلا بما في قوتي من ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى،وأما من طبع على الجور واستسهاله وعلى الظلم واستخفافه فلييئس من أن يصلح نفسه أو أن يقوم طباعه أبدا،وليعلم أنه لا يفلح في دين ولا في خلق[6].

من هنا يبدو الفصل واضحا بين أخلاق الطبع والتطبع لديه،إذ أن الأول غريزة في النفوس وعنصر مميز لها إذا ما وجد فيها،بينما الأخلاق القابلة للتغير والتبدل والانسحاب هي أخلاق غير ثابتة و ليست وليدة التطبع أو متفرعة عنه،ويكون دائما تبعا لهذا الطبع،فإذا كان هذا الأخير سليما فالتطبع يكون انعكاسا ومظهرا له وإذا كان العكس فتكون حينئذ نفس النتيجة ولكن بصورة مخالفة.

 2) الصور الواقعية للطبع الأخلاقي

هذا الطبع قد يكون خاصا وعاما،أما الخاص فتوجد نماذج منه لدى أشخاص دون آخرين،من بينها كما ذكر:العدل،وكذلك موضوع الملَل الذي هو من “الأخلاق المطبوعة في الإنسان، وأحرى لمن دهي به ألا يصفو له صديق ولا يصح له إخاء ولا يثبت على عهد ولا يصبر على إلف ولا تطول مساعدته لمحب ولا يعتقل منه ود ولا بغض،وأولى الأمور بالناس ألا يعدوه منهم وأن يفروا عن صحبته ولقائه فلن يظفروا منه بطائل.

وأهل هذا الطبع أسرع الخلق محبة وأقلهم صبرا،وانقلابهم على الود على قدر تسرعهم إليه”[7].

الملل خلق مطبوع في النفس ولكنه يختلف من حيث قوته لدى بعض الناس دون البعض الآخر،فهو خاص من نوع عام في جنسه.

أما فيما يخص الطبع العام لبعض الأخلاق عند الإنسان فقد أورد أشكالا من الواقع والملاحظة الدقيقة للمجتمع وعن بحث ميداني.

بحيث يذكر أن من بين النماذج الأخلاقية التي يشترك فيها الناس عموما ظاهرة التضحية بالنفس بدل التضحية بالمال عندما يقتضي الحال ذلك،فيقول:”وجدت المشاركين بأرواحهم أكثر من المشاركين بأموالهم،هذا الشيء طال اختباري إياه ولم أجد قط على طول التجربة سواه،فأعيتني معرفة العلة في ذلك حتى قدرت أنها طبيعة في البشر”[8].

أداة أخلاقية قبل أن تكون أداة معرفية وتمييز ووسيلة للتفكير واكتشاف المعلومات..

كتعليق بسيط على هذه الملاحظة نقول: بأن هناك تفسيرا ربما يكون مقبولا من الناحية العقلية والنفسية،وذلك أن الذي يضحي بالنفس قد يكون له أمل التعويض في الدار الآخرة ورجاء مقام الشهادة التي كلها نعيم وسعادة،بينما المحجم عن بذل المال،رغم أن له فضلا أخرويا وكذلك دنيويا من باب الخلف،فقد توهمه نفسه بأنه إذا أنفق المال ولم يعد عليه ربحه في الحال فسييبقى في حالة فقر مستمر،وذلك بحسب مستوى فهمه أو يقينه بالخلف وتوكله على الله تعالى.

ولهذا فقد كان هناك تفاوت حتى بين الصحابة عند الإنفاق بالمال رغم تقدمهم الروحي وقوة يقينهم بالله تعالى وقدرته على أن يعوضهم ما أنفقوه في الدنيا قبل الآخرة!!!.

هكذا إذن يمضي ابن حزم في تمييز الطبع النفسي المحض عن الطبع النفسي الأخلاقي فيقرر بأن الألم شيء مطبوع في النفس الإنسانية عموما،ولهذا فقد لا يصدق من الناس من يقول أنه لا يتألم ممن ناله بسوء.

لكن حينما يوجد طبع أخلاقي آخر ميزته العدل فإن هذا الألم قد يبقى في طي الباطن ولن يظهر إلى الخارج،كما يحكي عن نفسه في الموضوع: “وأما أنا فإني إن قلت لا آلم لنيل من نال مني لم أصدق،فالألم في ذلك مطبوع مجبول في البشر كلهم،لكني قد قصرت نفسي على ألا أظهر لذلك غضبا ولا تخبطا ولا تهيجا،فإن تيسر لي الإمساك عن المقارضة جملة بأن أتأهب لذلك فهو الذي أعتمد عليه بحول الله وقوته،وإن بادرني الأمر لم أقارض إلا بكلام مؤلم عنه فاحش أتحرى فيه الصدق والعدل ولا أخرجه مخرج الغضب ولا الجهل”[9].

لكن؛إذا وجد الطبع في السلوك فإنه يكون كاملا ويؤدى بسهولة ويوفي بالمقصود،حيث يبين لنا أهم ميدان يستفاد منه بالطبع لدى الإنسان هو العلم كأهم الفضائل وأسماها،إذ به يقف الإنسان عند حدود العدل وبه يتيسر له تطبيقه.

لهذا فاختيار العلم والنجاح فيه يبقى رهين الطبع الذي يميل بصاحبه نحوه،فمن”مال بطبعه إلى علم ما وإن كان أدنى من غيره فلا يشغله سواه،فيكون كغارس النارجيل بالأندلس وكغارس الزيتون بالهند كل ذلك لا ينجب[10].

عند هذا النص لا ينبغي أن تفوت الإشارة إلى ما تضمنه من قواعد تعليمية مهمة ينادي بها أغلب العلماء التربويين في العصر الحاضر، وهي:ضرورة مراعاة ميل الطالب لتوجيهه إلى العلم المناسب لطبعه واستعداده النفسي.

إن الطبع الأخلاقي الذي يوجد عند الإنسان قد لا يستمر على حاله الأصلي من حيث تحريكه له وتوجيهه ،وإنما هو قابل لكي يتعرض إلى كبت وكمون،وذلك في حالة عدم وجود مناخ مناسب لتوظيفه وتقويته،فيتعرض للانتقاص والاختفاء كما تختفي النار تحت الرماد،لكن لا يفتقد كلية بل يطفو من جديد إذا ناسب ظرفا خاصا به.

يقول ابن حزم عن نفسه بخصوص هذه المسألة: “لكل شيء فائدة،ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منافع عظيمة،وهي أنه توقد طبعي واحتدم خاطري وحمي فكري وتهيج نشاطي فكان ذلك سببا في تواليف لي عظيمة المنفعة ولولا استثارتهم ساكني واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف”[11].

فقد يكون الطبع كامنا في  الحياة اللاشعورية حتى إذا توفرت الظروف المناسبة لذلك طفا على السطح هذا الخلق أو ذاك كمثل العجب فيما يذكره نموذجا لهذه الأخلاق المطبوعة في الإنسان باعتباره سلوكا خاصا ببعض الأفراد: “فقد يكون العجب ثمينا في المرء حتى  إذا حصل على أدنى جاه ومال ظهر ذلك عليه وعجز عقله عن قمعه وستره”[12]. بحيث سيكون هذا المرض من أهم المظاهر الخلقية التي سيوظف فيها فلسفته الاجتماعية والنفسية وسيصفه وصفا دقيقا مع تحليله والإدلاء ببعض طرق علاجه لتخليص المجتمع من وبائه.فهل بعد هذا نكون قد استوعبنا معنى العقل وحكمة الشريعة الإسلامية في اعتباره من الضروريات الخمس الواجب الحفاظ عليها لسلامة والفرد والمجتمع؟ أتمنى ذلك…


[1] ابن حزم:الأخلاق والسير ص60

[2] هـ.ج.أيزنك:الحقيقة والوهم في علم النفس   ص289

[3]ابن حزم:الإحكام في أصول الأحكام مطبعة السعادة مصر ط1-1345ص5-6

[4] نفس  ج1ص50

[5] ابن حزم:الأخلاق والسير ص18-19

[6] ابن حزم:الأخلاق والسير ص38

[7] ابن حزم:طوق الحمامة   ص104

[8] ابن حزم:الأخلاق والسير  ص30

[9] نفس     ص36

[10] نفس ص ص22

[11] ابن حزم:الأخلاق والسير ص49

[12] نفس    ص78