شُغل محمد أركون (1928-2010) بطرح سؤال التأويل وكيفية إنجاز قراءة معاصرة للنص القرآني اعتمادا على الأدوات والمناهج الغربية الحديثة، فكانت خطوة جريئة أخضعت النص القرآني لحقول ونظريات حديثة، وفي السطور التالية أعرض بايجاز لمعالم مشروع أركون المعرفي ثم انتقل من التعميم إلى التخصيص وأبين رؤيته للدين وكيفية قراءة النص الديني.

أركون متحدثا عن مشروعه

يلخص محمد أركون مشروعه الفكري قائلا إنه محاولة “لتأسيس تاريخ منفتح وتطبيقي للفكر الإسلامي، أقصد منفتح على هذا الفكر وعلى كل منتجاته التي تتجاوز الحدود والحواجز المعرفية التي فرضتها الأدبيات الهرطقية والتيولوجية [أي الأدبيات المذهبية والعقدية]، ومنفتح بنفس الدرجة على علوم الإنسان والمجتمع ومناهجها وتساؤلاتها كما هي ممارسة عليه في الغرب اليوم منذ ثلاثين عاما، وهو أيضا تاريخ تطبيقي عملي في نفس حركة البحث، لأنه يهدف إلى تلبية احتياجات وآمال الفكر الإسلامي وسد نواقصه منذ أن اضطر لمواجهة الحداثة المادية والعقلية”[1]، ويتابع أركون “لم يعتد مؤرخ الفكر على أن يجمع بين كل هذه الاهتمامات ويفتتح كل هذه المنظورات ويتابع كل هذه المهمات في نفس الحركة الواحدة من الكتابة، ذلك أن المشروع شديد الجدة وشديد التعقيد إلى حد أنه يتعذر إنجازه تماما منذ المراحل الأولى”[2].

إن هذا المشروع المحدث والمتعدد الأبعاد “يتمايز عن كل ما عداه.. فأنا أهدف إلى نقده بطريقة تاريخية، وليس بطريقة تجريدية سكولاستيكية [تقليدية] .. إن مشروعي هنا ينخرط ابستمولوجيا في العمق، بل وفي عمق العمق، ويختلف بالتالي عن كل مشاريع الفكر”[3] سواء لدى المسلمين المحدثين أو لدى المستشرقين الغربيين إنه “يختلف عن برنامج بروكلمان وفؤاد سيزكين المتمثل في جرد المؤلفات العربية وإحصائها، إنه برنامج نقدي بمعنى دراسة شروط صلاحية كل المعرفة التي أنتجها العقل ضمن الإطار الميتافيزيقي، والمؤسساتي، والسياسي الذي فرض عن طريق ما كنت دعوته بالظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية”[4].

ملاحظات حول المشروع

يدور مشروع أركون الفكري حول: التاريخانية، التطبيقية أو ما يدعوه بالإسلاميات التطبيقية، ونقد العقل الإسلامي، وهناك بضع ملاحظات نقدية يمكن أن نوردها عليه وهي:

  • التعالي المعرفي: إن أكثر ما يحرص عليه أركون هو التركيز على تفرد مشروعه، وتفوقه على ما عداه، وكما نلحظ فإنه لا يفاضل بين مشروعه والمشروعات المماثلة أيديولوجيا ومنهجيا، أعني مشروع التاريخانية في سياقه المحلي بزعامة نصر حامد أبو زيد ومحمد الجابري، وإنما يضعه في موضع المقارنة مع مشروعات عالمية كبرى كمشروع بروكلمان وسيزكين الذي أرخ أولهما للكتابة العربية، وثانيهما للتراث المعرفي، ومشروع أركون من حيث الكم والكيف لا يقارن بمشروعات ضخمة سدت فراغا في المعرفة التراثية.
  • المرجعية اللا متكافئة: صرح أركون -كما أسلفنا- أن مشروعه ينفتح على التراث العربي والمعارف الغربية، وهذا الانفتاح المزدوج كان يتطلب منه أن تكون مصادره ومرجعياته الفكرية متكافئة شرقية وغربية، ولكن المطلع على مشروعه يعلم أن مصادره الأساسية لا تتعدى الفكر الفرنسي، ولا نقول الغربي لأنه أكثر اتساعا وثراء، ويدعم ذلك التطابق الواضح بين ما ذهب إليه المفكرون الفرنسون في أطروحاتهم الفكرية وما توصل إليه أركون في دراساته، ورغم هذا لا يعترف بدينه الكامل للثقافة الفرنسية وينكر تأثره بها مدعيا أنه لم يسقط على الإسلام طرق تفكير ومناهج بحث مغايرة له[5].
  • العنف اللفظي، تغص كتابات أركون بالعنف الذي يوجهه نحو المقدسات والأنظمة الفكرية المغايرة والرموز الدينية؛ ومن أمثلته حديثه عن دور النبي صلوات الله عليه في تأسيس دولة المدينة “وهذه العملية قد أُنجزت …تحت قيادة هذا الرجل الذي يُدعى محمدا والذي راح يٌقبل تدريجيا وبشكل أكثر فأكثر بصفته نبي الله، إنني أدعوه هكذا باسمه عاريا من أي لقب!! كما نقول مثلا عيسى الناصري، وليس يسوع ابن الله”[6] وهو يتعامل بعنف مشابه مع الفقهاء فيقول” إن الشيء الذي يحظى باهتمامنا وينبغي التركيز عليه هو ذلك الزعم المفرط والغرور المتبجح الذي يدعيه الفقهاء بأنهم قادرون على التماس المباشر بكلام الله” [7].
  • النيتشوية العدمية، يتبنى أركون نهجا عدميا في كتاباته، فليس لديه تفاضل علمي بين المناهج والمجالات المعرفية، وهو لا يرى تعارضا بين الثنائيات (الدين والعلم، الغيب والأسطورة، المقدس والمدنس، الأديان السماوية والأديان الوضعية) الكل يبدو متشابها ومتكافئ، ولا يمكن تأصيل أي فكر ولا الثبات على رأي، وتلك العدمية هي ترديد لعدمية المفكرين الفرنسيين فوكو ودريدا ودولوز الذي أرسوا فكرة أنه لا شيء يمتلك بداخله استقرارا، وليس هناك أصل ليتم تأصيله، وبعبارة أخرى ليس هناك حقيقة ولا توجد يقينيات لأننا نعيش كما يقول في مرحلة “نهاية اليقينيات”[8].

الدين من منظور علماني

يقع الدين في القلب من مشروع أركون، وهو ينطلق في دراسته من منظور علماني ذاهبًا إلى أنه ليس ثمة فرق بين الأديان الوثنية وأديان الوحي، فهذا التمييز مجرد مقولة عقدية ” تعسفية تفرض شبكتها الإدراكية أو رؤيتها علينا”[9]، وكل الأديان قدمت للإنسان ليس فقط التفسيرات والإيضاحات وإنما الأجوبة الكاملة فيما يخص علاقتنا بالكون والأشياء فوق الطبيعية (الغيب)، وقد اعتبرت هذه الإجابات متعالية وصحيحة ويقينية، وبهذا المعنى لم تعد خاضعة للملاحظة والتحليل العلمي وخرجت من دائرة العقل وهيمنته، ويفترض أركون أننا ندمج الأجوبة والحقائق الدينية ليس عن طريق اللغة وحسب وإنما عن طريق تجسيدها وصهرها في أجسادنا عبر الشعائر والطقوس التي يمارسها الجسد وتتغلغل حتى تسيطر على الإدراك والسلوك.

ويقرر أركون أن هناك ثلاث محددات ينبغي توافرها فيما يمكن أن ندعوه بالأديان وهي: الطقوس والشعائر التي تساعد على دمج الحقائق الأساسية في الجسد وتعمل على إخضاعه لها، والمؤسسة الدينية المطابقة لهذه الشعائر والتي توفر الفضاء الملائم لأدائها، والأنظمة الدينية المعرفية التي تفسر الشعائر وتوضحها[10].

ويميز أركون بين نوعين من الشعائر، شعائر صدفوية أو احتمالية كما يدعيها وشعائر أخرى واقعية ترتبط بشبكة إدراكاتنا وأحاسيسنا، وهو لا يعطي توضيحات أو يضرب أمثلة لنتبين مراده لكننا نستطيع أن نقول أنه يرى مثلا أن شعيرة مثل “النحر” هي شعيرة صدفوية أو احتمالية نحن لا نمتلك برهانا عليها فهي محل شك، ويؤسس على ذلك أن العقل لم يمارس فعله بشكل مستقل في فهم النصوص الدينية والشعائر، وأن عالم الدين يحاول إيهامنا دائما أنه يتحدث باسم عقل أعلى يمتلك وحده الأدوات والمنهجيات لقراءة النصوص الدينية، ومن ثم يطرح تساؤلا حول كيف يمكننا أن نقرأ النص القرآني اليوم، وما هي شروط القراءة.

القراءة الأركونية للقرآن: من النص المنزل إلى النص المدون

إن أهم شرط من شروط القراءة لدى أركون يتمثل في نزع القداسة عن النص القرآني والتعامل معه وفق المناهج الفيلولوجية، ويجسد هذا المعنى بقوله: إني لا أتحدث أبدا عن  كلام الله أو عن الحقيقة الموحى بها… أريد أن أركز أولا على الفضاء اللغوي للقرآن”[11]، وهو يفترض أن النسيج اللغوي القرآني يمكن مقاربته على مستويين:

  • مستوى التلفظ الأول: كان القرآن طيلة عشرين عاما عبارة عن سلسلة متصلة من العبارات اللغوية الشفهية التي تلفظ بها النبي صلوات الله عليه، وفي الوقت نفسه كان مرجعًا لا ينفصل عن تجربة إنسان هو مزيج من رجل الدين ورجل السياسة المنغمس في التاريخ، هذا الإنسان ظهر في مجتمع له تقاليد وعادات معينة فأراد الانتقال بها إلى إطار مؤسساتي آخر وإلى طريقة أخرى في الحياة، وذات طراز ثقافي وقانوني مختلف، “وعملية الانتقال هذه هي التي يقوم بها (القرآن الشفهي)، ومجمل هذه العبارات الشفهية سوف تسجل فيما بعد في كتاب بالمعنى الثقافي والعادي للكلمة، وليس بالمعنى المتعالي للكتاب الموحى” به[12]
  • مستوى الكتاب المدون: وهي اللحظة التي تشكل فيها “مصحف ما” وأُعلن أنه المصحف الوحيد الصحيح، ونسخة المصحف هذه عبارة عن نص مكتوب، ولم تعد كلاما شفهيا حرا كما كان في البداية، وهذا ما يغاير كليا من شروط فهم كلام الله وتفسيره واستخدامه، لأن عملية الانتقال من النص الشفهي إلى مرحلة النص المكتوب تُصحب حتما بضياع جزء من المعنى[13]، ورغم هذا ظلت هذه الصيغة المكتوبة تمارس دورها طوال خمسة عشر قرنا بشكل مضاد دائما للنواحي السياسية والثقافية والمعرفية، واستخدمت كأداه للسلطة منذ تشكل الدولة الأموية وحتى اليوم[14].

ولا يقف أركون في قراءته عند حد التمييز بين النص الشفهي والنص المدون، وإنما يدمج بعدا آخر في عملية القراءة، هو بعد المتلقي للنص الإلهي وأعني به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يناقش ذلك بوضوح رغم ارتباطه الوثيق بموضوعه وإنما يجرنا إلى الحديث عن دور النبي “الإنسان” لا “مبلغ الوحي” في تأسيس دولة المدينة، وهو يفعل ذلك ليبرهن على صعوبة الفصل والتمييز بين الديني والدنيوي في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الأخير له الغلبة والهيمنة وهو ما نستشفه من سؤاله “كيف استطاع محمد، المواطن من مكة والعضو في قبيلة قريش، أن يدشن تجربة تاريخية ارتباطًا مع محمد النبي الذي لا يتحدث باسمه الشخصي وإنما باسم كلام متعال آت من الله، ومُستقبل على هذا النحو في الوعي والضمائر؟ …  هذا ما ينبغي أن نراه ونركز عليه اهتمامنا بدلا من أن نُعمي البصر بالحديث المكرور الذي لا ينتهي فيما إذا كان محمد قد تلقى الرسالة من الله أم لا، كما يفعل المستشرقون“. [15]

خلاصة ما يرمي إليه أركون في محاولته لإعادة قراءة النص القرآني هو التأكيد على الطابع البشري للرسول صلى الله عليه وسلم، ونفي الصفة الدينية عنه، والفصل بين المرحلة الشفهية والمرحلة التدوينية للمصحف والزعم بضياع جزء من المعنى خلال عملية الانتقال تلك من جانب آخر، وعبر هذه الآلية المزدوجة تنتزع القداسة عن النص المنزل، وعن الرسول المبلغ ونصبح أمام نص (علماني) لا قداسة فيه ولا تعالي شأنه شأن النصوص الأخرى سواء بسواء.


[1] محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط2، 1996، ص 11.

[2] تاريخية الفكر، ص 11.

[3] محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم، ترجمة هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة، 2004، ص 48-49.

[4] تاريخية الفكر، ص 13.

[5] محمد هلال المزوغي، العقل والتاريخ منابع إسلاميات محمد أركون، بيروت: المستقبل العربي، 2007،  مج 30، ع 342 ، ص 38.

[6] محمد أركون، العلمنة والدين، ص50.

[7]  محمد أركون ، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ص 16.

[8]  محمد هلال المزوغي، المرجع السابق، ص 45-46.

[9]  محمد أركون، العلمنة والدين، ص 23.

[10] هذه الفكرة ليست من بنات أركون، وإنما هي منحولة من علم الاجتماع الديني، راجع الفصل الخاص بالدين في: أنتوني غيدنز، علم الاجتماع، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 569-596.

[11] العلمنة والدين، ص45-46.

[12] العلمنة والدين، ص 46.

العلمنة والدين، ص 28.  [13]

[14] العلمنة والدين، ص 47.

[15] الدين والعلمنة، ص 50-51.