على مدى رحلات الحج عبر التاريخ، وثقت كتب الرحالة والمؤرخين رحلات الحجاج الأوائل من قارات العالم المختلفة، أوروبا وإفريقيا وآسيا، في رحلات بحرية وبرية شاقة للغاية، كانت تستغرق شهورا وسنوات حتى تصل مكة، حيث كان لكل قافلة طريق وخطة وبرنامج مختلف، فيه الكثير من المعاناة والحماس والأمل والتجاوزات التي وثقها أهلها بصور مختلفة، وأثارت حفيظة العلماء الذين اتخذوا مواقف وأصدروا فتاوى جريئة في بعض الأزمنة.

وعلى الرغم من ذلك المجهول في طريق الحج ذهابا وإيابا، فقد امتثل المسلمون في طوال التاريخ الإسلامي نداء الله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. فمن تلك الفجاج البعيدة في أقاصي الأرض من مشرقها ومغربها يحج المسلمون منذ شُرع الحج في العام التاسع من الهجرة، ومنذ حجة النبي صلى الله عليه وسلم التي عُرفت باسم حجة الوداع وإلى اليوم يفعلون، وفي سبيل ذلك واجهوا – لا سيما في عصور ما قبل الدولة الحديثة – ما لم نكن نتخيله في يومنا هذا لولا تواتره في التاريخ!

رحلة الحج العثمانية

كانت رحلة الحج العثمانية عبر التاريخ تبدأ من اسطنبول مرورا بهضبة الأناضول والشام التي كانت المحطة الرئيسية للانطلاق إلى مكة براً عبر طريق عُرف بـ”درب الحج الشامي”، والذي كان يستغرق التحضير له شهوراً قبل انطلاق القافلة المحملة بالمؤن والهدايا والحماية من حرس السلطان.

وتشمل القافلة الشامية حجاجاً من الروم والعجم والأتراك ومن بلاد البلقان والقوقاز والقرم ومدن الأناضول والعراق وحتى وسط آسيا، وبالطبع حجاج إسطنبول نفسها، فكانت الشام (دمشق) هي نقطة تجمع وفود الحجيج القادمة عبر حلب أو عبر الطرق الصحراوية الأخرى، وكان كثير من الحجاج يصل لدمشق مبكراً ويقضي رمضان فيها، استعداداً لإكمال الرحلة إلى مكة والمدينة، وكان هناك خانات وزوايا لإقامتهم في رمضان.

وكان أمير الحج مكلفاً من السلطان العثماني خدمة وحماية قافلة الحج، مع قوة عسكرية لحراستها من هجمات قطّاع الطرق، ويقوم بتجهيز المحمل والكسوة الشريفة للكعبة، وتُصنع الكسوة الشريفة بأيدي عمال وحرفيين يقيمون بدمشق، ويكون في القافلة أيضاً “الجردة”؛ وهي مؤن وإسعافات إضافية للحجيج، وكذلك” الجوخدار” الذي ينقل رسائل الحجاج إلى أهاليهم أو يطلب لهم النجدة والمساعدة في أحوال الطوارئ. وفي القافلة أيضاً، السقاة وأصحاب الدواب التي تنقل الحجاج وأصحاب الخيم وحَمَلة القناديل والمشاعل ومعاونوهم الكثر، بالإضافة لجنود الحراسة.

وكان السلطان العثماني يشرف بنفسه على خروج حجاج إسطنبول، ويرسل معهم صكوك بأموال الأوقاف والهدايا المرسلة للحرمين وأهالي مكة والمدينة من أغذية ومصابيح وسجاجيد. وكان السلطان عبد الحميد أمر في مارس/آذار 1900م بإنشاء سكة حديد الحجاز لربط الأناضول والشام بالمدينة المنورة، لتسهيل الحج بدلاً عن قوافل الإبل ورحلاتها الشاقة بين الشام والحجاز، ووصلت بالفعل من دمشق إلى المدينة، لكن الحرب العالمية الأولى وثورة الشريف حسين، أمير مكة، على الأتراك دمرت المشروع وأوقفت الرحلات.

رحلة الحج الأندلسية

أما رحلة الحج الأندلسية عبر التاريخ ، فقد وثقها الرحالة ابن جبير الأندلسي في كتاب أدب الرحلات، بعد انطلاقه من غرناطة في جنوب إسبانيا حالياً، مرورا بمضيق جبل طارق إلى سبتة في المغرب، قبل أن يعبر ابن جبير البحر متوجها إلى جزيرة صقلية الإيطالية، أعقبتها مدينة الإسكندرية.

ويحكي ابن جبير كيف خرج من غرناطة ببلاد الأندلس يوم الخميس 8 شوال 578هـ، قاصداً الحج مع صاحبه أحمد بن حسان. وعبر مضيق جبل طارق إلى سبتة في المغرب، ومنها ركب البحر إلى جزيرة صقلية ثم مصر، فالعبور عبر البحر الأحمر إلى مدينة جدة. وكتب عن أهوال البحر الذي كاد يعصف بسفينته، وكيف  ركب قافلة حملته إلى مكة، التي فوصل إليها بعد قرابة 6 أشهر في الطريق من الأندلس.

وكان ابن جبير جغرافياً، رحالةً وكاتباً وشاعراً أندلسياً عربياً، وقصد من رحلته إلى جانب الحج تدوين كتابه الأهم “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار، اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك،” ولذلك طالت رحلته بينما كان أهل الأندلس يقضون نصف الوقت تقريباً في رحلة الحج.

وفي مكة، وصف ابن جبير أحوالها وغضب ممن اتخذوا الحرم سوقا للبيع، ودخل الكعبة ووصفها من الداخل، وأقام بمكة شهوراً، ثم زار المدينة أسبوعاً، بدأ بعدها طريق العودة إلى الأندلس عبر طريق الشام، فسافر إلى نجد في الصحراء، ثم رحل إلى الكوفة فالحلة فبغداد ثم الموصل وتكريت، ثم سافر غرباً للشام، وتجول في مدن الشام قبل أن يركب البحر مع تجار إلى صقلية، ومنها عبر البحر إلى الأندلس، ثم لبيته في غرناطة أخيراً، بعد 3 سنوات تقريباً من الترحال المستمر.

رحلة الحج الإفريقية

أما بالنسبة لرحلات الحج من أفريقيا عبر التاريخ ، وأيضا الهند، فكانت الرحلة الأبعد والأخطر على الإطلاق، كانت الطرق متعددة للحجاج الإفريقيين. وأكثرهم كان يفضل التوجه للمغرب للحاق بالحجاج المغاربة عبر طريق يمرون منه عبر ليبيا والجزائر براً قرب ساحل البحر المتوسط، ثم الإسكندرية، عبر المراكب النيلية ثم إلى جدة بعد اجتياز البحر الأحمر(خاصة في زمن الصليبيين).

فيما كان البعض الآخر من حجاج إفريقيا يسلكون طريق الصحراء الكبرى ومنها إلى السودان ثم مصر، ثم يقرر الحاج الإفريقي التوجه إلى جدة راكباً البحر أو براً عبر صحراء سيناء.

وأهم طرق الحج الإفريقية هي طريق الصحراء الذي يبدأ من تمبوكتو إلى صحراء الجزائر وليبيا الحالية وصولاً إلى القاهرة ومنها للعقبة ثم المدينة أو عبر ميناء عيذاب على البحر الأحمر وصولا إلى جدة، وأيضاً طريق الحج الجنوبي من غرب ووسط أفريقيا بإتجاه السودان ثم عبور البحر الأحمر إلى جدة، والطريق الساحلي من شنقيط بموريتانيا ثم الرباط وفاس بالمغرب ثم الجزائر وطرابلس وصولاً إلى القاهرة أيضاً.

رحلة الحج الأسيوية

أما رحلات الحج عبر التاريخ من سنغافورة ومومباي وكلكتا بالهند وكراتشي وجاوا والصين كان الحجاج القادمون من جنوب شرق آسيا يصلون عبر موانئ مسقط وعدن والبحر الأحمر (القصير وبور سودان) إلى ميناء جدة ومنه يكملوا رحلة الحج إلى مكة.

وكان سلاطين الهند والمغول في شبه القارة الهندية وأمراء جنوب شرقي آسيا يحرصون على تجهيز السفن والقوافل لنقل الحجاج إلى مكة والحرمين الشريفين، وكانت الموانئ الهندية الواقعة على الساحل الغربي في الهند وباكستان الحالية، مثل مومباي وكراتشي، تنشط في موسم الحج لنقل الحجاج من بلدان آسيا الجنوبية وحتى آسيا الوسطى للسفر إلى جدة عبر بحر العرب ثم البحر الأحمر في السفن المخصصة لنقل الحجاج.

ويحكي كتاب “رحلة الأميرة للحج” عن رحلة الأميرة سكندر بيجوم للحج عام 1863م، مع قرابة 1000 من الهنود القادمين من إمارة بوبال الإسلامية الهندية، إلى مكة عبر 3 سفن انطلقت من مدينة بومباي لمدة 3 أسابيع تقريباً حتى وصلت جدة أخيراً، بعد أن واجهت مخاطر وتعقيدات كبيرة، وفقدت خلالها 8 من رجال القافلة، منهم 4 في السفينة التي كانت محمَّلة بالحُلي والملابس والهدايا للأمراء والفقراء في مكة، حيث أقامت فيها 6 أشهر.

ابن بطوطة..رحلة حج تستغرق 24 عاما

لا يمكن الحديث عن رحلات الحج عبر التاريخ من دون الحديث عن رحلة محمد اللواتي الطنجي المعروف باسم “ابن بطوطة”، الرحالة الشهير، فمن طنجة المغربية على المحيط الأطلنطي، بدأ محمد الطنجي، وهو رحالة ومؤرخ وقاضٍ مغربي أمازيغي، رحلته الطويلة للحج، وقال يصف رحلته: “حزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وَصَباً، ولقيت كما لقيا نَصَباً”.

لم يجد أبو عبد الله ابن بطوطة، الذي كان بلغ من عمره 21 عاما، رفيقا لرحلته للحج، لكن الرحلة التي كان يفترض أن تستغرق 16 شهرا دامت 24 عاما كرحّالة وكاتب ومؤرخ كان غرضه فيها التعلم والرواية التاريخية وأخيرا قضاء مناسك الحج.

عبر شمال إفريقيا وساحل المتوسط، قطع ابن بطوطة بلاد المغرب والجزائر الحالية ومكث شهرين في تونس، ثم ارتحل لميناء الإسكندرية التابعة للمماليك حينها، ومنها للقاهرة فالبحر الأحمر ثم عبر البحر الأحمر لجدة فمكة.

كما يحكي ابن بطوطة رحلة الحج في القرن الرابع عشر الميلادي فيقول: “رحلات ثلاث، بدأت أولاها من طنجة باتجاه إفريقية حتى الإسكندرية ومنها لدمياط فالقاهرة، ثم تابعت سفري في النيل إلى أسوان فعباب على البحر الأحمر، ومنها أبحرت إلى جدة ثم عدت للقاهرة ودمشق عبر فلسطين، ثم سرت إلى اللاذقية فحلب واتجهت مع قافلة حجاج إلى مكة ثم توجهت بعد ذلك إلى العراق ثم فارق وحججت للمرة الثانية، ثم انطلقت من مكة إلى اليمن فالبحرين ومنها إلى مكة ثم وصلت إلى مصر وهي أم البلاد”.

الحاجّ رهينة لحمّاله!

حين لا تملك وسيلة مواصلاتك في ذلك الزمن الغابر إلى الحج فأنت في غالب الأحيان تقع تحت رحمة الحمّالين والجمّالين، وكان الأغلب الأعم منهم يستغل موسم الحج في زيادة مضاعفة أرباحه للكساد وقلة الأرباح التي كان يواجهها بقية العام، ولأجل ذلك كان الحُجّاج يُعانون معهم أيما معاناة!

تلك المعاناة التي دوّنها عدد من الرحّالة الأقدمين، مثل الأندلسي ابن جبير البلنسي الذي جاء حاجا في زمن صلاح الدين الأيوبي سنة 579هـ/1183م، ورأى بنفسه ما كان يلقاه الحجاج من سكان ميناء عيذاب وهم من البجاة السودان، ساكني الجبال، فيستأجر الحجاج منهم الجمال، ويسلكون بهم الصحراء المصرية الشرقية القاحلة، فيصبح الحاج معهم كالأسير!

يقول:” فربما ذهب أكثرهم عطشًا وحصلوا (أي الجمّالين) على ما يُخلّفه من نفقه أو سواها” بل إن الذين يؤثرون أن يعبروا الصحراء الشرقية للوصل إلى ميناء عيذاب على الحدود المصرية السودانية اليوم، كانوا يصلون في صورة مروّعة من الجوع والعطش، بل يصف ابن جبير بعضهم “كأنه منَشر من كفن، شاهدنا منهم مُدّة مقامنا أقوامًا قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة، وهيئاتهم المتغيرة آيةً للمتوسّمين”.

ولم تقف معاناة الحجاج في العصر الوسيط عند ذلك الحد من قسوة الحمّالين وغلظتهم، وإنما كان البحر مهلكة كما البر، وكما كان البُجاة السودان المتحكمون في رقاب حجاج مصر والمغرب في الصحراء، كان أصحاب المراكب والسفن في ميناء عيذاب منهم أيضا يتحكمون به في رقاب الحجيج في البحر، فقد كانوا يكدسونهم في المراكب تكديسا طلبا للربح السريع والوفير على حساب أرواح هؤلاء البؤساء.

يقول ابن جبير في ذلك: “ولأهل عيذاب في الحُجّاج أحكام الطواغيت، وذلك أنهم يشحنون بهم الجلاب (المراكب) حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة”.

وفوق ذلك، وحينما يمر الحجاج إلى العدوة الأخرى من البحر الأحمر، كانت السلطات في مكة وحتى زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي تفرض على الحجّاج القادمين من المغرب خاصة ضريبة مرهقة، ومن لم يكن يدفع هذه الفريضة لم يكن يُسمح له بالمرور والحج، يقول أبو شامة في تاريخه: ” كان الرسم بمكة أن يؤخذ من حجاج المغرب على عدد الرؤوس، بما ينسب إلى الضرائب والمكوس، ومن دخل منهم ولم يفعل ذلك حُبس (مُنع) حتى يفوته الوقوف بعرفة، ولو كان فقيرا لا يملك شيئا”.

إسقاط فريضة الحج!

ويقول المؤرخون أن صعوبة الحج وخطورة الطريق بلغت أن بعض علماء المغرب وشنقيط كانوا يفتون بإسقاط تلك الفريضة وحتى زمن متأخر من نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، يقول محمد ألمامي الشنقيطي: “إن فريضة الحج ساقطة لأسباب عديدة في تلك المدة عن أكثر الشناقطة”، ويفصّل ألمامي هذه الأسباب في قوله إن “قيل كيف يسقط شيء جماعي بمفسدة، قلت الحج جماعي الوجوب وأسقطه كثير من العلماء للمخاطرة بالنفوس على أهل المغرب، قيل ومن كان آفاقي .. قلت: أجمع المحققون ممن حج من علماء المغاربة والمصريين أن السفر في هذا الزمان للحج لا يجوز لا لضرورة ولا لغيره، وذلك لما يقع من تضييع الصلوات الخمس، والمخاطرة بالنفس والأموال والفروج والله أعلم”.

بل كان نجاح فريضة الحج لأهل شنقيط (موريتانيا) من بلاد الصحراء المغربية الكبرى في تلك الأزمنة يعد في ذاته استثناءً، نظرا لكثرة فشل رحلات الحج التي كانت بسبب الأمراض أو هلاك الحجاج في الطريق، وعُدت رحلات الحج الناجحة تلك بمثابة “الكرامات” التي نُسبت لأصحابها، كما هو الشأن بالنسبة للشيخ ماء العينين الذي كان من أوائل من استطاعوا العودة سالمين من رحلتهم للحج، وذكره التاريخ كأحد هؤلاء الناجين “أصحاب الكرامات”.