شهدت العاصمة القطرية الدوحة أشغال مؤتمر حوار الأديان في طبعته العاشرة، حيث التقى مختلف أتباع الديانات العالمية لبحث أسس قواعد حوار يسعى إلى تغليب منطق العقل، ويعتمد (حوار الحضارات) قاعدة ترتكز عليها العلاقات العالمية، لتجنب (صدام الحضارات) الذي بشّر به هنتنغتن يوما، وأكدت شواهده طبيعة الأحداث التي وقعت تحت أسر الصراعات الأيديولوجية، بمنطق التعصب حينا، أو بمنطق رد الفعل أحيانا أخرى.

(حوار الحضارات) أريد له أن يكون حجر الأساس لرؤية عالمية مشتركة، تتعلق أولا بموقف العالم الغربي من الإسلام الذي جعلته مصانع الدعاية العدو الأول بعد سقوط النظام الشيوعي، فاسحة المجال لظهور أعراض متقدمة لما عُرف بـ(رُهاب الإسلام)، كما يتعلق بالمقابل من موقف الإسلام نفسه من هذه الديانات والأفكار العالمية، ومدى استعداده لتقبلها أو حتى (التغاضي عنها)، ليس في مواطن وجودها وانبثاقها الأصلية، وإنما حتى في داخل الدول الإسلامية نفسها.

كان يمكن لهذه الخطوة أن تكون أكثر جدّية و(فاعلية) بالنسبة لنا، نحن المسلمين، لو سبقها معالجة الأزمات المتجذرة في تاريخ الحقل المعرفي الإسلامي بين المسلمين أنفسهم، والتي أنتجت صراعا رهيبا، عرف عدة تحولات مأساوية: فالنقاش والجدال الفكري تحوّل من (كلام) في (دقيق العلم وجليله) إلى (سلوك)، اعتمد مبدأ محاكم التفتيش لحمل الناس على (مذهب واحد) في الفقه و(رأي واحد) في العقيدة؛ حسب ميول نفسية أو عقدية أو سياسية، أو حتى مصلحية، قبل أن يتحول إلى (معارك) طائفية قضى على إثرها كثير من العامة والخاصة، من مختلف الأتباع والمذاهب، وحسب طبيعة الصراع ونوعية الخلاف.

لقد استأذن أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي، الإمام مالكا في حمل الناس في كل الأمصار على موطئه وما حواه، لولا اعتذار الأخير وجوابه القاضي بإدراك حقيقة هذا التنوع المعرفي، وأنه ليس عائقا بل محفزا إذا أُحسن استغلاله وأُبعد عن مجال السياسة، والله وحده يعلم أكان سلوك أبي جعفر المنصور ناتجا عن قناعة بصحة مذهب الإمام الذي حواه بين دفتي (الموطأ)، أم مساومة سياسية لصد مالك عن الإفتاء بعدم لزوم بيعة المكره قياسا على طلاقه، أم كان ذلك بغرض قمع المخالفين من (الشيعة) الذين ساهموا في (الدعوة) و(الثورة) ضد الأمويين، وكان مذهب (أهل الحديث) معدّلا (شرعيا) لقناعاتهم وأفكارهم في الإمامة وحدود الولاء لآل البيت، قبل أن ينقلب عليهم العباسيون ويستأثروا بالملك والسلطان دونهم.

ما لم يتمكن أبو جعفر المنصور من إنفاذه في مجال الفقه، سعى إليه الخليفة المأمون في مجال العقيدة، حيث أدى تبنيه لأفكار المعتزلة، خاصة آراء أحمد ابن أبي دؤاد، إلى حمل الناس على مذهب (أهل العدل والتوحيد) الكلامي بالقوة، فامتحن جِلَّة الفقهاء والعلماء ليُسايروه فيما سمي بـ(فتنة خلق القرآن)، وانتهى الأمر بمحاكمة الإمام أحمد بن حنبل الذي مثّل المعارضة المعرفية ووقف في وجه (علم الكلام بوجهه المعتزلي) وانتهى مشهد الصراع الأول بسجنه وضربه، قبل أن يستكمل المعتصم والواثق المسيرة التي حُسمت على يدي المتوكل بعدهما. ولكن بدا واضحا أن حمل الناس على مذهب واحد، صحيح أو خاطئ، بات أمرا مستحيلا، دون إغفال دور المدارس النظامية التي أسسها نظام الملك في نشر العقيدة الأشعرية التي أضحى معتنقوها هم أغلب متأخري أتباع المذاهب الفقهية من حنفية ومالكية وشافعية.

بدا واضحا منذ البداية ـ في واقعة صفين أولا، ثم النهروان ثانيا، ثم مختلف الصدامات العقدية والسياسية ـ أن السيف كان العامل الحاسم في فض النزاع وترجيح كفة المختلفين، ولهذا بقي (السيف) ـ الذي تحفظ له العرب مئات الأسماء ـ العاملَ الحاسمَ إلى الآن، يلجأ إليه المتخاصمان عندما تُعوزهما الحجة في الإقناع، أو حتى قبل التحاور والجدال أصلا! 

نفس المحاولات ـ بشكل أو بآخر ـ حاولت مختلف دول العالم الإسلامي مشرقا وغربا أن تسلكها، في سبيل الدفاع عن فكرة أو ترجيح رأي على آخر، لأهداف مختلفة، فالمرابطون هاجموا بشدة تراث أبي حامد الغزالي (حجة الإسلام) وأحرقوا كتابه (إحياء علوم الدين)، في حين اعتلت الدولة الموحدية سدة الحكم في المغرب الإسلامي والأندلس، وسعت إلى نشر مذهب يمزج بين الفكر الظاهري في الفروع والكلام الأشعري في الأصول، فأحرقوا كتب المالكية بعدما جردوها من الآيات والأحاديث الواردة فيها، وحاربوا المذهب المالكي، كما أنهم شنوا حملة ضد بعض (الفلاسفة) ـ وعلى رأسهم ابن رشد الحفيد ـ و(ادّعوا) الالتزام بـ(الكتاب والسنة) مرجعين وحيدين في التشريع، رغم أن هذه الدعوى الموحدية لقيت معارضة معرفية شديدة، وكان شيخ ابن الإسلام ابن تيمية قد أشهر قلمه في (كشف عوارها) بعد قرون، رغم أنه (نسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى، فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويُطريه، فكان ذلك مؤكدا لطول سجنه)، كما ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمته في (الدرر الكامنة).

بدا واضحا منذ البداية ـ في واقعة صفين أولا، ثم النهروان ثانيا، ثم مختلف الصدامات العقدية والسياسية ـ أن السيف كان العامل الحاسم في فض النزاع وترجيح كفة المختلفين، وتحول النزاع السياسي إلى نزاع عقدي تغذّى طويلا بالأفكار والمعارف، كما تغذى بالقمع والانعزال والدخول في مراحل (الدعوة السرية) عبر (بث الدعاة) في الأقطار للتمكين لهذا المذهب أو ذاك.. ولهذا بقي (السيف) ـ الذي تحفظ له العرب مئات الأسماء ـ العاملَ الحاسمَ إلى الآن، يلجأ إليه المتخاصمان عندما تُعوزهما الحجة في الإقناع، أو حتى قبل التحاور والجدال أصلا!

جميع الطوائف كوّنت أفكارها المسبقة عن مخالفيها وحدود تعاملها معهم: فعلى مستوى التقسيم الطائفي السياسي، يوضع (الشيعة) في كفة مقابلة لكفة (السنة)، ولهذا يُعتبر (الشيعة) و(الرافضة) كفارا بالنسبة لأهل السنة ـ وأنا أتكلم هنا عن خطاب سني بارز في السنوات القليلة الماضية ـ وهم بناء على ذلك (أخطر من اليهود والنصارى وأضرّ على الأمة منهم)، كما أن (أهل السنة) بالنسبة للشيعة (نواصب كفار يدينون ببغض آل البيت). وعلى مستوى التقسيم الأيديولوجي، يظهر المتكلمون في مقابل (أهل الحديث)، كما ينقسم (المتكلمون) إلى طوائف أبرزها (المعتزلة) و(الأشعرية) التي اعتبرت غريما تقليديا للمعتزلة فبنوا أصولهم الكلامية على نقض أصول (أهل العدل والتوحيد)، دون إغفال الحديث عن (الفلاسفة الإسلاميين) كالكندي والفارابي وابن سينا في المشرق، وابن باجة وابن طفيل وابن رشد الحفيد في المغرب، وحتى (الخوارج) الذين (أشهروا السيف) في وجه الجميع.

ما يحدث في إيران (منذ ثورة الخميني على نظام الشاه) ولبنان (منذ بروز حركة أمل ثم حزب الله) أعاد فتح ملف العلاقة بين المسلمين أنفسهم، وكشف ـ للأسف ـ عن خلل كبير في التصور الطائفي وأساليب التعامل مع المخالف، وهذا ما يؤكد ضرورة السعي الحثيث لوضع أسس علاقة سليمة بين المذاهب الإسلامية، من أجل التعايش لا التقارب، لأن عالم اليوم والخيارات المطروحة لا تسمح بغير طريقين: التدمير الذاتي والحروب الطائفية، أو التعايش وتبني منطق عصمة الدماء ونبذ الفتن.

الحوار مع (الآخر)، المتمثل هنا في مختلف المذاهب والديانات العالمية أمرٌ جميل، ليس بغرض التقريب كما يظن البعض، فلا يوجد أحد يتمسك بدين يعتقد أنه سبيل النجاة الوحيد، ثم يتنازل عن بعض أصوله من أجل (عيون) الآخرين، ولكن فقط بغرض التعايش.

هنا، يُصبح (الحوار) ليس مجرد وسيلة، بل غاية في ذاته، لأن الحوار يحمل معنى التواصل، والتواصل يعني مد جسور (التعارف) لاحتكاك الثقافات واقتباس أحسنها والاستفادة منه ـ والتعارف غاية إلهية كما في سورة الحجرات (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) ـ والجسور هي الطريق المباشر الوحيد بين طرفين لتوضيح الرؤى وتصحيح الأفكار وتحسين الصورة واستعادة الثقة.

الحوار مع (الآخر) أمرٌ ضروري، ولكنَّ الحوار مع (الأنا) يبدو في عالم اليوم أشد ضرورة، لأننا لا يمكن أن نساهم في تشييد العالم الفسيح، في حين أن بنياننا نحن يبقى واهيا كبيت العنكبوت، يعصف به أدنى خلاف أو شقاق أو تصادم.