تعتبر بلاد شنقيط منارة شامخة ورباطا مقدسا بفضل ما أبدعه علماؤها الأجلاء وعباقرتها المؤلفون الذين شرحوا الوحي ونشروه في كل أصقاع العالم، واستنبطوا منه وقاسوا عليه ما أشكل عليهم من الأحكام المتعلقة بالدين والدنيا.

و موريتانيا من البلاد التي تمَثِّل الثقافةُ فيها قِمَّة المجد، وبِها توجد مدارس كثيرة ومَكتبات تمثِّل شواهد حَيَّة كمكتبة شنقيط مثلا، حيث يمتاز التعليم المحضري الموريتاني بالعمق والمرونة والقدرة على التكيف مع جميع الظروف الاقتصادية والطبيعية الصعبة، فهو يزدهر في المدن والبوادي وينمو في الأوساط الفقيرة والغنية.

مفخرة موريتانيا

وقد امتازت موريتانيا بنظام تعليمي فريد يُعرَف بـ”المحاضر”، وهي جامعات أهلية عريقة تُعْنَى بدراسة العلوم الشرعية واللغوية وغيرها، حتى قيل إنَّ موريتانيا هي هِبةُ التعليم الْمَحْضَري.

بدأت المحاضر برحلةِ أمير المرابطين يحيى بن إبراهيم الكُدالي إلى الحج وانتدابِه للفقيه عبد الله بن ياسين لتعليم قومه، ثمَّ سار خلَفُه على نهجه، فكانوا يَنتدبون العلماءَ لتعليم الناس، وازدهرت المحاضر في فترة امْتَدَّت من القرن الـثامن عشر الميلادي حتَّى مجيء الاستعمار في مطلع القرن العشرين، وكانت – ولا تزال – مركزَ إشعاع في دول كثيرة.

وقد خرَّجت المحاضر علماء لا نظير لهم من أساتذة الجامعات الحديثة في الحفظ والإتقان والضَّبط والطب والشعر والعلوم الشرعية واللغوية، بينهم العلامة مُنيرة بن حبيب الله.فمن هو؟

الإسم والمولد

اسمه منيرة بن حبيب الله (صاحب السم) بن المختار الشمشوي الألفغي،وصاحب السم كنية عرف بها أبوه حبيب الله.

عاش العلامة منيره رحمه الله في (ق12 هـ) توفي عام 1165 هـ . وهو شيخ جليل وعالم متبحر وإمام في العلوم النحوية واللغوية هاجر من “القبلة” إلى “ولاته” فنشر علومه هنالك ثم رجع إلى القبلة وتوفي بها ومن شعره وهو في غربته:

ألا يا خفاف الجن بالله خبروا *** وقولوا لهم إن الغريب غريبهم

وليس له من صاحب ومؤنس  *** بلادي وأوطاني بما أن قائله

على سطح دار ذاهب العقل ذاهله *** سوى ساحرات كل حين تقاتله

ومن أهم مؤلفاته :

  •  شرح لألفية ابن مالك سماه الدلاصة على الخلاصة
  • نوازل فقهية 3 وأشعار مختلفة .

الدلاصة على الخلاصة

يُعَدُّ منيره بن حبيب الله بن المختار بن أعمر بن أبوبك بن محمد بن يعقوب بن أحمذنلَّ بن مهنض أوبك بن أبي يعلي بن دبيال يعقوب الألفغي الشمشوي (ت.1163هـ/1749م)، أحد شيوخ المحاضر الموريتانية البارزين خلال القرن الثاني عشر للهجرة. وقد نشأ في منطقة “الترارزة” وتلقى بها معارفه قبل أن يهاجر منها إلى “ولاتة” حيث طاب به المقام ردحا من الزمن، واشتهر عطاؤه العلمي، وأسهم بقسط وافر في نشر العلم في ربوعها، ولاسيما علمي النحو واللغة.

ومن أبرز الآخذين عنه: الإمام عمر مم بن محمد بن أبي بكر الولاتي (ت. 1201ه/1786م)، والحاج أبو بكر بن الطالب عمر البرتلي (ت.1179ه/5-1766م)، وأحمد بن سيدي عثمان بن مولود الغلاوي (ت. 1179ه/5-1766م)، والحسن بن الطالب أحمد بن علي دكان البرتلي (ت. 1173ه/1760م) وغيرهم.

وقد ترجم له البرتلي في تاريخه (ص. 36) وفي فتح الشكور (ص. 220) ووصفه ب”شيخ أشياخنا” وقال إنه “كان أستاذا فاضلا جليلا نحويا لغويا أديبا، له حظ في القراءة والفقه والأصول وغير ذلك، حسن الخلق جميل العشرة، شاعرا ناثرا، له شرح حسن مفيد رتب فيه توضيح ابن هشام على الخلاصة سماه: “الدلاصة على الخلاصة”.

ومن آثار منيرة الأخرى التي ما يزال لها حضور حي في ولاتة قصيدته التوسليةاليائية التي مطلعها:

بِبَابِكُم حَاجَوِيُّ  ***  يَا أَحْمَدَ الْقَرَشِيُّ.

آثاره العلمية و الثقافية

“حبب الدلاصة في ترتيب التوضيح على الخلاصة”، والدِّلاص: الشيء البرَّاق، ويقال للذهب. أما الحَبَب فهو ما يعلو الأسنان والخمر والذهب الذائب من الفَقَاقِع.
وقد ظل هذا النص سنين عدداً أثراً مفقوداً في أوساط المحضرة الموريتانية، واستمر البحث عنه يثير فضول طلبة العلم في هذه البلاد بعدما أشار إليه عدد من المؤلفين من علماء المنطقة، كان من أبرزهم الطالب محمد بن أبي بكر البرتليالولاتي(المتوفى عام 1219هـ/1805م) في كتابه “فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور”.

إنه كتاب “حبب الدلاصة في ترتيب التوضيح على الخلاصة” لمؤلفه منيره بن حبيب الله الألفغي الشمشوي. وبعد حقب متطاولة من ضياع الكتاب، اضطلع الباحث الدكتور محمد المختار ولد السعد بمهمة تحصيل نسخة منه عندما كان في مهمة بحثية في العاصمة الفرنسية باريس أواسط ثمانينيات القرن العشرين، إذ تمكن من استنساخ نسخة ميكروفيلم بالمكتبة الوطنية بباريس.

وصف المخطوط

تندرج النسخة الباريسية ضمن مجموع المكتبة العمريةالمحفوظ بالمكتبة الوطنية بباريس تحت رقم 186-79، 5545. ويوجد النص ضمن مخطوطات أخرى من هذه المكتبة، ويبدأ ترقيم صفحاته بالرقم 79 وينتهي بالرقم 189، أي ما مجموعه 111 صفحة.

إضافة إلى هذه النسخة الأصلية، هناك نسخة أخرى مستنسخة منها، لكنهاخضعت لعملية تصحيح أشرف عليها العلامة محمد سالم ولد المحبوبي رحمه الله تعالى، حيث نجد في خاتمة هذه النسخة إفادة بذلك بخطه.

وبحكم أن النسخة الباريسية الأصلية للكتاب مندرجة ضمن ملف يحتوي مخطوطات أخرى، كان هناك تداخل واضح بين بداية الكتاب وخاتمته، هذا طبعاً إذا سلمنا بأنه ليس هناك خلط في الترقيم، وهو أمر يبدو وارداً. ويشجع على هذا الافتراض اعتبار الاحتمال القائم بأن من قام بالتنظيم ووضع منهج الترتيب بين المخطوطات ربما كان ممن تنقصه الدراية اللغوية اللازمة لذلك.

شرح نادر لألفية ابن مالك

هل يمكن أن يكون شرح العلامة منيره للألفية المسمى “”حبب الدلاصة” هو أول شرح شنقيطي للألفية؟ قد يقول قائل: ألم يؤلف قبله “شافي الغليل في علوم الخلاصة والتسهيل” للعلامة انجبنان؟! خاصة وأن الرجلين عاشا في فترة واحدة، حيث توفي منيره 1162هـ وتوفي انجبنان1160هـ، لذلك يبقى الاحتمال وارد حتى تثبت الأولية لأحدهما بالحجة.

ومما كُتب في ترجمة العلامة منيره الشمشوي أن “له شرح حسن مفيد، رتب فيه توضيح ابن هشام على الخلاصة، سماه الدلاصة على الخلاصة”  وأن هذا الشرح النفيس لا توجد منه إلا نسخة يتيمة، قَذَفت بها صروف الدهر لتصبح جزءا من المكتبة الفرنسية الوطنية بباريس.

ومؤلف الدلاصة هو  منيره بن حبيب الله التشمشاوي ، والذي كان ـ رحمه الله تعالى ـ أستاذا فاضلا جليلا، نحويا، لغويا، أديبا، له حظ من في القراءة والفقه والأصول وغير ذلك، حسن الخلق، جميل العشرة، شاعرا، ناثرا (…) قرأ عليه الألفية الإمام عمر بن أبي بكر الولاتي ، والحاج أبو بكر بن الطالب محمد بن الطالب، وأحمد بن سيدي عثمان بن مولود الغلاوي، وغيرهم، وانتفعوا عليه. ولا يحتاج تبيان قيمة الكتاب العلمية إلى كبير عناء، فقد خرج من رحم ذهن العلامة منيره، وجمع فأوعى من دُرّ ودَرّ المعارف النحوية والقرآنية وغيرها الكثير والكثير، دُرٌّ يقلد به مطالعُه جِيدَه، ودَرٌّ يَرْتضعه من لَبان “خنْدُودِه”؛ فاستحق بذلك قول البرتلي: “حَسَنٌ مُفِيدٌ”.

براعة ومنهج واختصار وتصويب الشارح

وامتدح العلماء حسن الاستهلال المعروف عند البلاغيين والنقاد، واعتبروه ميزة من ميزات المقتدرين، ويظهر في مقدمة الرجل براعة استهلاله، فكل مفردات مفتتح مقدمته ـ على اختلاف معانيها ـ تفتح أبواب شغاف قلب القارئ وتقول هيت لك؛ لبراعتها. كما رسم العلامة منيره في مقدمته منهجا واضحا سار عليه في الشرح ولم يبغ عنه حولا.

ولما كان قصد منيره من شرحه التقريب للتلاميذ ناسَبَ ذلك أن يختصر، فكان حين “يطنب ابن هشام” في موضع ما “يُقْصِر عنه العِنَان”، وربما يصرفه طلب الاختصار عن ذكر وجوه لبعض الألفاظ ومعان لبعض الحروف نبه عليها؛ لأنها “لا تليق بمختصر المختصر”، وحين يطيل ـ

أنظامه وتنبيهاته

لا تخفى أهمية الأنظام التعليمية المقيِّدة لشوارد الفوائد عند أهل ذلك العصر، لذلك كان منيره بين الفينة والأخرى يتحف قارئ شرحه ببعض أنظامه العلمية، إفادة له وتخليدا لها.

ولم يُرِدْ منيره لشرحه أن يكون خُلْوا من النكت والتنبيهات التي تضفي عليه رونق طلاوة الإبداع، فكان ينبه فيه على بعض الدقائق المهمة، كتنبيهه في حديثه عن الشبه الاستعمالي أن “ظاهر كلامه (ابن مالك) أن العوامل تدخل عليه ولا تؤثر فيه، مع أنها لا تدخل عليه فضلا عن التأثير”، مشيرا إلى أن ذلك “من باب إعطاء المعدوم حكم الموجود:

الاعتناء بنسخ الألفية وإعرابها

من مميزات شرح منيره “الدلاصة” توقفه عند اختلاف النسخ وإعرابها مناقشا ومصححا، إن بالقاعدة وإن بالتَّلَقِّي عن المشائخ، ومن أمثلة ذلك قوله عن نسخة (ويحذف الناصبها): “وإياك ونسخة “ويحذف ناصبها” بتركيب الفعل وإسناده إلى ناصبها مجردا من أل أو معها، لخروج الأولى عن قاعدة العروضيين، وامتناع الثانية عند غير الفراء من النحويين، والصحيح ما رويناه عن الفهامة النحوي أحمد بن العالم العلامة النحوي التندغي، وهو بناء الفعل للفاعل وإسناده إلى واو الجمع، والإتيان بناصبها منصوبا مجردا من أل”

ومن ذلك ـ أيضا ـ توقفه عند إعراب “مُبِينًا” في قول ابن مالك:

كذا إذا عاد عليه مضمر *** من ما به عنه مبينا يُخْبَرُ

القصيدة التوسلية

قصيدته التوسليةاليائية”بِبَابِكُم حَاجَوِيّ”، وتخميس الطالب أعلي بن الطالب أعمر البرتلي (ت. 1179ه/1766م) لها المسماة “وسيلتي” ما زالت إلى اليوم هذه القصيدة مما يُحْيِي به الرجال عيد المولد في المسجد وفق “ضربة” خاصة بها، ويتغنى بها النساء على الطبل ليلا. وكتب في بداية إحدى نسخها المتداولة في ولاتة ما نصه: «هذا تخميس قصيدة (وسيلتنا إلى ربنا) لمنيره الشمشوي، أنار الله منا ومنه السريرة: “بِبَابِكُم حَاجَوِيّ”».

وفاته

وتفيد التقاليد المروية في محيط الرجل العائلي أن مقامه في ولاته وأحوازها قد طال، وأن أخباره قد عَمِيَّتْ على ذويه حتي رحلة عودته من ولاتة إلى مسقط رأسه بأواسط إيكَيدي حيث عاش بقية حياته، ورزق أبناءه: محمذ، والسعد، وعبد الله، وأحمدُّو. وتوفي – على الراجح – عام 1163ه/1749م ودفن في “اكْفُوذْيَلَّه” الواقعة على بعد 65 كلم من نواكشوط جنوب طريق الأمل.