الحمد لله حمدا يليق بجلاله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وصحبه وآله، وبعد

فأحسب أننا نحتاج إلى جهود عديدة في وضع الضوابط والمعايير التي تحكم عملية الاجتهاد في فقه الأقليات، ولقد حرصت من خلال معايشتي لكتب أصول الفقه والقواعد والمقاصد مع معايشة يومية وزيارات ميدانية للمسلمين في أمريكا وأوروبا والهند والصين وغيرها على أن أساهم في رؤية متواضعة بين يدي أساتذتي وإخواني العلماء في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث لعلي أحظى بتقويمهم وأنعم بدعائهم.

ضوابط لا قواعد

وقد اخترت لفظ الضوابط قاصدا به الإطار الذي يحكم عملية الاجتهاد للأقليات المسلمة، وحرصت ألا أكتبها القواعد حتى تناقش وتنقح، أما كونها منهجية لأنها ترسم الطريق في عقل ووجدان المجتهد أن يستصحب هذه الأطر والضوابط عند الاجتهاد، والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، أما الأقليات المسلمة فهم في نظري حقيقة نوعان:-

– أولاً: أقلية عددية في أوروبا وأمريكا والهند والصين على سبيل المثال لا الحصر.

ثانيا: أقلية في الحقوق القانونية بما يمارس عليهم من اضطهاد مثل مسلمي كشمير والشيشان وأوزبكستان وأذربيجان وقرقيزيا ..إلخ وقد يدخل فيها بعض الدول الإسلامية التي لا تحظى فيها الأكثرية المسلمة بحقوق الأقلية غير المسلمة، ويطارد فيها الدعاة والمصلحون، ويعيشون ظروفا أسوأ بكثير من المسلم الذي يعيش في الغرب.

أدعو الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا رشدنا وأن يوفقنا لحمل الأمانة وأداء الرسالة كما أنزلها الله تعالى حنيفية سمحة كالمحجة البيضاء.

الشعور بالمواطنة

الضابط الأول: تعميق الشعور بالموطنة.

من فطرة الإنسان السوي أن يحب الوطن الذي تنسم هواه و تضلع بمائه و تشبع بطعامه و تنعم بخيراته واعتز بتراثه، والفقه لا يصادم الفطرة السوية بل يحرص على أن يمدها بالتزكية والاعتدال.

وإذا كان المسلمون الأقلية لا يشعرون بالانتماء إلى بلد استوطنوه فإن هذا يعد خدشا في المروءة وطعنا في الكرامة ويفتح باب الذرائع أن تتوجس الأكثرية من هذه الأقلية فينفونهم أو يضطهدونهم.

و إذا كان الفقه يعالج و اقعا قائما فنحن أما ما يلي:-

1- المسلمون في أمريكا أكثر من 8 ملايين منهم 22.4 % أميريكيون أصليون و77.6% مهاجرون استوطنوا أمريكا حسب ما نشرته وزارة الخارجية الأمريكية عن “الإسلام في أمريكا” و نسبة المهاجرين منهم أكثر من 40% هم أبناء إما أتوا صغارا أو ولدوا في البلد نفسه و صلة هؤلاء ببلاد آبائهم صلة حنين و متعة يثيرها الآباء في الأبناء بالحديث عن الوطن و الجد و الجدة و العم و الخال لكن هؤلاء يشعرون أن أمريكا هي بلدهم و هي جزء من حياتهم و قلوبهم.

2- المسلمون في أوروبا (شرقية و غربية) يعيشون المشاعر ذاتها وأغلبهم لا يملك إمكانية العودة إلى دياره الأولى تحت ضغط الفقر و القهر.

3- المسلمون في الصين أكثر من 150 مليون هم جميعا أصليون

4- المسلمون في الهند أكثرمن 200 مليون مسلم هم من نخاع الهند

5- المسلمون في دول شرق آسيا هم أصليون أغلبية أو أقلية في أوزباكستان وطاجكستان وكازاخستان وقيرقيزيا وأذربيجان وتايلاند وسنغافورة وسيريلانكا.

6- المسلمون الأقلية في أفريقيا هم مواطنون ليس لهم دار غير دارهم في تنزانيا و أوغندا وكينيا وغانا والنيجر وجنوب أفريقيا.

لمثل هؤلاء و غيرهم في اليابان و أستراليا و ….. يجب أن يصدر المجتهدون والفقهاء والأئمة والمصلحون من فقه المواطن لا المهاجر، المقيم لا الراحل، ابن البلد و ليس الدخيل ؛ لأن هذا هو الواقع أولا، ولأن الوفاء للمكان الذي فيه درجت أو احتميت أو ارتويت بعد ظمأ أو شبعت بعد جوع وتعلمت بعد جهل أو تحركت بعد كبت يوجب خلق الوفاء أن يشعر بحق هذا البلد عليه في الإصلاح و المشاركة الجادة في نموها و استقرارها، و هذا لا يمنع من الحنين إلى الموطن الأصلي إن وجد لدى “المهاجرين” كما كان –صلى الله عليه وسلم- تدمع عيناه أصيلا يمدح مكة و كذا بلال وغيره لكنهم استوطنوا المدينة وأقاموا بها وحولت إلى مهد للخير والنور في الأرض كلها ودعا النبي –صلى الله عليه وسلم- للمدينة أن يبارك في صاعها ومدها وأن ينقل حماها إلى الجحفة فصارت يثرب طيبة في هوائها و مائها وغرسها و أهلها.

الابتعاث إلى الخير

ولست أعني هنا أن يشعر المسلم المقيم في دول غير إسلامية بما كان يشعر به الصحابة نحو المدينة حيث اجتمع فيها النص الشرعي مع التطبيق العملي في سلطة شرعية و دولة إسلامية صارت نورا للبشرية ولكن أعني أن الحنين إلى بلد الولادة و المنشأ لا حرج فيه و لا يمنع من المقام في بلد آخر، وإصلاحه و الحنين إليه أيضا والوفاء لحقه هذا مع الأخذ بالاعتبار أن النسبة الأكثر في الأقلية المسلمة هم مولودون أو ترعرعوا في بلاد عير إسلامية إذا أضفنا الأبنا ء إلى الأصليين.

و إذا كانت قضية المواطنة في البلاد غير الإسلامية موضع خلاف حتى الآن فإن الذين يصلحون للفتوى والاجتهاد هم أولئك الذين يرون صحة أو استحباب أو وجوب الإقامة والتوطن في البلاد غير الإسلامية حملا للأمانة و تبليغا للرسالة وابتعاثا في الخير كما نص القرآن (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، و قال النبي –صلى الله عليه و سلم- (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وقد هيمنت فكرة الابتعاث إلى الخير حتى على الأعراب مقولة ربعي بن عامر: “إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد غلى عبادة رب العباد و من جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.

رفع الحرج أم الإيقاع في الحرج؟

وفي جميع الأحوال لو أجمع فقهاء الأرض الآن على عدم صحة الإقامة والمواطنة فلن يغير هذا من الواقع البلاد التي بها أصليون، و لن يرحل أكثر المهاجرين إلى بلادهم التي عانوا منها، فهل من وظيفة الفقه أن يؤثم الناس ، أم يرفع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم؟‍‍‍‍‍‍‍‍!

ولذا يبدو لي أنه يظهر المسلم في أي بلد أنه مواطن يحب بلده و يكره من يفسدها و يعاديها و هو حام لحماها حريص على حاضرها و مستقبلها و هذا لا يعني الولاء للأديان التي علت بفسادها أو الأفراد الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون أو الحكومات التي تسن القوانين المخالفة للإسلام بل هو ولاء للبلد الذي يحمل صاحبه على التفكير الجاد في أن يقدم الخير لشعبها و أرضها حتى يحقق فيها رحمة الإسلام للعالمين، ويبذر الخير للناس أجمعين.

وعليه فلا حرج حتى على المهاجرين أن يقول أنا مسلم فرنسي أو مريكي أوياباني من أصل شامي أو مغربي أو مصري أو هندي ….إلخ، كما أنه لا حرج أن يعتز ابن البلد الأصلي ببلده لا بحكومتها و لا بقوانينها المخالفة لدينه و أن يقول كل لأخيه:

خليليّ إنا مقيمان ها هنا ** وكل مقيم للمقيم نسيبُ

وليس كما قال الشاعر:

خليلي إنا غريببان ها هنا ** وكل غريب للغريب نسيبُ

المصدر