توفي صبيحة الثلاثاء 23 سبتمبر 2020، العلامة الفقيه والأديب وأحد أبرز علماء الحديث في هذا العصر- إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق- الشيخ نور الدين عتر الحسني، عن عمر يناهز “83 عاما”، وهو أستاذ الحديث الشريف وصاحب المصنفات الحديثية القيمة، والتحقيقات العلمية النافعة، والتي تتلمذ عليها العديد من طلاب الحديث في العالم.

تجاوزت مؤلفات الشيخ العتر الخمسين ما بين تحقيق وتأليف، أبرزها كتاب “منهج النقد في علوم الحديث” الذي اعتبر مرحلة تاريخية جديدة في علم المصطلح بعد مرحلة شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني. فمن هو هذا العلامة الجليل الذي فقدته الأمة الإسلامية؟

من هو الشيخ نور الدين عتر؟

هو الإمام العلامة المفسر، المحدث الحافظ الفقيه، الأستاذ الدكتور نور الدين عتر الحسني، الحنفي مذهباً، الحلبي مولداً، نزيل دمشق، ذو السبق في علوم الحديث النبوي الشريف روايةً ودرايةً في مجالات التدريس والتحقيق والتأليف. سليل أسرة علمية عريقة في التقى والصلاح، راسخة في علوم الشريعة والحقيقة.

ولد الأستاذ الدكتور نور الدين عتر في حلب الشهباء عام 1356هـ، الموافق 1937، وكان والده (الحاج محمد عتر) من خواص تلاميذ العلامة الجليل الإمام الشيخ العارف بالله: محمد نجيب سراج الدين رحمه الله ورضي عنه، وكان الحاج محمد رحمه الله عالماً عاملاً مربياً مرشداً، وقد نذر مولوده لخدمة دين الله تعالى، وهيّأ له الأسباب، فأتم الله تعالى ذلك بلطفه وجوده.

درس في الثانوية الشرعية (الخسروية) وتميز بالتفوق والسبق في العلم والعمل من وقتها، حصل على الشَّهادة الثَّانوية الشَّرعية عام 1954م حائزاً الرتبة الأولى، ثم التحق مباشرة بجامعة الأزهر في مصر، حاز الليسانس عام 1958م، وكان الخريج الأوَّل على دفعته. وكان موضع نظر أساتذته الأجلاء من شيوخ الأزهر وعلمائه لما رأوه فيه من مخايل النجابة والجد والتقى، وقد قسم له المولى الإفادة من علماء عاملين ربانيين منهم: الشيخ مصطفى مجاهد، الشيخ محمد محمد السماحي، والشيخ عبد الوهاب البحيري، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد رحمهم الله تعالى وأعلى مقامهم. إلا أن صاحب الأثر الأكبر في تكوينه العلمي والروحاني هو سراج الأمة في عقودها الأخيرة شيخ الإسلام العلامة الشيخ عبد الله سراج الدين الحسيني، الحافظ المفسر، والعارف المحقق، والدكتور نور الدين حفظه الله تعالى ابن أخته وصهره زوج ابنته.

في عام 1964م حاز على الشَّهادة “العالِمية” من درجة أستاذ (الدُّكتوراه)، من شعبة التَّفسير والحديث بتقدير ممتاز مع الشرف، حيث قدَّم أطروحته: “طريقة الترمذي في جامعه، والموازنة بينه وبين الصَّحيحين”، والتي تعدُّ نموذجاً فريداً من حيث المضمون والمنهج؛ وغدت طريقته في تبويبها نمطاً فريداً اعتمده كثير من الباحثين في مناهج المحدثين.

وبعد تحصيل الدكتوراه عاد لسوريا مباشرة، درّس في المرحلة الثانوية لفترة يسيرة، ثم عُيِّن مدرِّساً لمادة الحديث النَّبويِّ في الجامعة الإسلامية منذ عام 1965م، إلى عام 1967م، في المدينة المنوَّرة، على ساكنها أفضل الصَّلاة وأتمُّ السَّلام.

وفي عام 1967م عاد إلى دمشق ليعُيِّن مدرِّساً ثم أستاذاً في كلية الشَّريعة بجامعة دمشق فيها، ودرَّس مادتي الحديث والتفسير في كليات الآداب في جامعتي دمشق وحلب، كما درّس في العديد من الجامعات العربية والإسلامية لفترات وجيزة، إضافة إلى العديد من المساجد. ولا زال – بفضل الله عز وجل – يباشر عمله في التدريس الجامعي إلى يومنا هذا . وقد تخرج على يده آلاف المدرّسين، منهم نخبة متميزة من العلماء والأساتذة.

كما عمل خبيراً مختصاً لتقويم مناهج الدراسات الجامعية الأولى ومناهج مرحلة الدراسات العليا في جامعات متعدِّدة في العالم الإسلامي. وأشرف على عشرات الأطروحات الجامعية من دكتوراه وماجستير، وهو محكَّم لبحوث الترقية لمدرّسي الجامعات، وعرف بدقته الشديدة في تحكيمه.

مؤلفاته وإرثه العلمي والثقافي

صنف الشيخ نور الدين عتر ما يزيد على 50 كتابًا، بين تأليف وتحقيق، وتنقسم كتبه إلى عدّة مجالات منها ما هو في القرآن وتفسيره وعلومه، ومؤلفات في الحديث وعلومه، بالإضافة إلى كتب فقهية، كما كتب في الأمور الاجتماعية والثقافية.

أبرز كتبه (منهج النقد في علوم الحديث) الذي اعتبر مرحلة تاريخية جديدة في علم المصطلح بعد مرحلة شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني.

وكتابه (إعلام الأنام) الذي يعد تحفة فريدة في الحديث التحليلي، أبدع في بيان كيفية استنباط فقهاء الأمة الأحكام المختلفة من النص الواحد. وكتبه عموماً تتسم بالابتكار في التبويب، وتكثيف المعلومات مع وضوحها للمتخصص في آن، وهذا قل ما يجتمع، وأكثر مؤلفاته معتمدة كمقررات جامعية في العديد الجامعات، كجامعة دمشق والأزهر وغيرها.

أما مؤلفاته في القرآن وعلومه فأبرزها كتاب “علوم القرآن” الذي يتحدث به في فصول متعددة عن تعاريف القرآن والوحي، كما يُبين بهذا الكتاب حقوق القرآن على الإنسان والمسؤولية الملقاة على المسلمين تجاه كتاب ربهم، وبالإضافة إلى هذا المؤلف خطّ الشيخ عتر كتابًا بعنوان “القرآن الكريم والدراسات الأدبية”، يتحدث به عن الصورة الأدبية في كلام الله وهذا الكتاب من مقررات كلية الشريعة في جامعة دمشق.

ويبرز كتاب “منهج النقد في علوم الحديث” كأشهر كتب الشيخ نور الدين، وهو عبارة عن مؤلف في مصطلح الحديث، ويقدم فيه ترتيبًا جديدًا للتمييز بين العلوم المتعلقة بالمتن والسند، وهو ما يصوغ به الشيخ علم الحديث على شكل نظرية متكاملة بعد أن كان هذا العلم يُدرس على أبواب متفرقة.

فقهيًا، يوجد لنور الدين عتر عدّة مؤلفات أشهرها “المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام” و”أبغض الحلال”، كما أفرد كتبًا ثلاث عن الحج، وكتابًا عن “هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخاصة”.

تحدث الشيخ في أحد كتبه وهو “ماذا عن المرأة”، عن المرأة في الإسلام وأحكامها في الشريعة، ردًا على الشبهات التي تُثار تجاه هذه الأحكام، كما تكلم عن المرأة وتربيتها وتعليمها عند غير المسلمين، وأضاف بحوثًا عن الزواج وأسسه في الدين، كما وضع كتابه بعنوان فكر المسلم وتحديات الألف الثالثة وهو عبارة عن 5 أقسام.

للشيخ منهجٌ خاصٌ بالتأليف اعتمد فيه على عدة أمور خلال سنوات إنتاجه العلمي، فقد أولى نور الدين التقسيم والترتيب والتبويب أهمية كبيرة، وذلك لأن هذا الطريق لها أثر في سهولة الفهم وحسن الاستيعاب، كما اعتمد الشيخ على نقل من سبقه من العلماء بطريقة نقدية ممحصة معتمدًا على النقل من المصادر الأصيلة، ويُضاف لمميزات العتر أنه يعرف بالمصطلحات التي ترد في مؤلفاته، كما أنه يستشهد بالأمثلة التي تُبين الحكم للقارئ وتوضحه، وله أسلوب لغوي تميّز بالوضوح والبساطة مبتعدًا عن الغموض والإبهام.

أخلاقه وتعامله مع تلامذته

عدا عن تفوقه العلمي والأكاديمي، عُرف الشيخ عتر بين معارفه ومريديه بأخلاقه الطيبة، فكان متواضعًا شديد الزهد وهو ما لم يجعله قريبًا من أضواء الشهرة رغم مؤلفاته الكبيرة التي تعتبر مصادر في العلم الشرعي والمنهج البحثي في الحديث. وبهذا الصدد يذكر الكاتب والباحث محمد خير موسى خلال حديثه عن الدكتور عتر “بينما كنّا في السّنة الأولى في كليّة الشّريعة كنّا نرقب الأساتذة الكبار وهم يسيرون في ممرّات الكليّة مسرعين لا يلتفتون يمنةً ولا يسرة ويتناثر حولهم الطلّاب يحثّون الخطى لينال أحدهم إجابةً عن سؤال سريعٍ أو يلتقط إجابةً عجلى من فم الأستاذ المستعجل”.

هو لطلابه أب شفوق ومعلم صارم ومربٍ مصلح، أثر في حياتهم العلمية والدعوية، وكانت له الأيادي البيضاء في افتتاح الكثير من المعاهد والمدارس الشرعية، ومساعدة عدد من طلاب العلم مادياً في الخفاء.

الشيخ العلامة مع كونه من أكبر علماء الحديث الشريف في وقتنا هذا إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق، يتميز بالناحية الروحية الواضحة، فتزكية النفس غايته، وإدراك رضا الله ورسوله هدفه، زاهدٌ في المناصب والدنيا، متواضعٌ، سمحٌ، رحيمٌ، نقي الصدر نقاء الثلج، خاشعٌ، رقيق القلب بكاءٌ، وإن من يحضر مجالسه من ذوي الألباب يجزم أن الشيخ يحيا في عالم من أحبهم قلبه وتعلق بهم من السيد الأكرم صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه، ولذلك فإنه رغم ضخامة إنجازاته يختار الخفاء دائماً، والبعد عن الأضواء ما أمكنه، بل لا نبالغ إن قلنا إن منهجه هضم النفس والتواضع، مع عطية ربانية من الوقار والهيبة، يؤتيها الله تعالى أهل الصدق والاستقامة.