التثبت والتحري قبل أن ينسب شيئ إلى أحد هو المنهج الإسلامي الأصيل والفريد، دعا إليه القرآن الكريم، وأثم النبي عليه الصلاة والسلام ناقل الأقوال بلا التمييز بقوله:” كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع”[1]، ويشتد الإثم ويزيد إذا كانت نسبة الشيء إلى الشرع بلا التبين، ولله در الحسن البصري القائل: “المؤمن وقاف متبين”[2]. ومن هنا تبرز أهمية الإسناد ودروه في غربلة الأخبار وتنقيتها حتى تكون نسبة الحوادث إلى مصدرها بطريق سليم ومنهج قويم.

شرف الإسناد ومكانته

البحث في الوقوف على حلقات سلسلة الرواة الذين نقلوا الحديث عن قائله، أو الذين نقلوا الأخبار من مصدرها الأول؛ هو ماهية الإسناد وحقيقة وظيفته ومعالمه، وعن شعبة قوله:”  كل حديث ليس فيه حدثنا، وأخبرنا، فهو مثل الرجل بالفلاة معه البعير ليس له خطام “[3]  وثبت عنه عليه الصلاة والسلام قوله: “تَسْمَعُون ويُسْمَع مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ”.[4] وهذا هو حقيقة هيئة سلسلة الأسانيد، ومن ثم يعد الإسناد من المعجزة النبوية الخالدة وإرهاص طيب وباهر لحفظ الدين من الضياع، وقد سطَّر التاريخ في عمره بأن الإسناد وليد الأمة الإسلامية فحسب.  

وعن محمد بن حاتم بن المظفر قال: إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها بالإسناد وليس لأحد من الأمم قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هي صحف في أيديهم وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم فليس عندهم تمييز ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتخذوها عن غير الثقات”[5]

 وقال أبو حاتم الرازي : ” لم يكن في أمة من الأمم مِنْ خَلْقِ اللهِ آدم ، أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة[6] “.وكفى بالإسناد مفخرة أنه من مفاخرنا الدينية الكبرى.

ثم لم يكن المسلمون وحدهم ينوهون بخصيصة الأمة بشرف الإسناد دون سائر الأمم؛ بل أقر بذلك الأعداء أيضا، وفي المثل: والفضل ما شهد به الأعداء، وهذا الدكتور موريس بوكاي الكاتب العالمي يقول:” لقد كانت معلومات هذا المصدر الثاني تعتمد على النقل الشفهي، لذلك كان الذين بادروا إلى جمع هذه الأقوال والأفعال في نصوص قد قاموا بتحقيقات تتسم دائمًا بالصعوبة، ولهذا كان هَمُّهُم الأول في عملهم العسيري مُدَوَّناتهم منصبًا أولاً على دِقَّة الضبط لهذه المعلومات الخاصة بكل حادثة في حياة النبي، وبكل قول من أقواله والتدليل على ذلك الاهتمام بالدِقَّة والضبط لمجموعات الأحاديث المعتمدة فإنهم قد نصُّوا على أسماء الذين نقلوا أقوال النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأفعاله، وذلك بالصعود في الإسناد إلى الأول من أسرة النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ومن صحابته الذين قد نقلوا هذه المعلومات مباشرة منه نفسه، وذلك بعد الكشف على حال الراوي في جميع سلسلة الرواية، والابتعاد عن الرُواة غير المشهود لهم بحسن السيرة وصدق الرواية، ونحو ذلك من دلائل ضعف الراوي المُوجبة لعدم الاعتماد على الحديث الذي روي عن طريقه. وهذا ما قد انفرد به علماء الإسلام في كل ما روي عن نبيِّهِم”[7]

وليس القصد الافتخار والإعجاب بنقل مثل هذا الكلام ولكن من باب كمال الحق ما نطق به الأعداء، وإلا فضل الإسناد لأهل الإسلام أمر واقعي ملموس سواء أقر به الأعدء أم لا.

الإسناد والحكم على الحديث ثبوتا أو نفيا

الحديث النبوي يشمل الإسناد والمتن معا، بل لا يلتفت إلى المتن ألبتة إلا بعد تحقق النظر في الإسناد، وكل منقول مفتقر إلى الإسناد ولا بد، فأي حديث بلا حدثنا وأخبرنا، من وساوس الشيطان التي تضرب على الحائط وترمى.

وقال يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: “لا تنظروا إلى الحديث، ولكن انظروا إلى الإسناد؛ فإن صح الإسناد، وإلا فلا تغترَّ بالحديث إذا لم يصح الإسناد[8]

وقال الحاكم: “فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بتراء”.[9] ربما حدث الأعمش بالحديث، ثم يقول: بقى رأس المال، حدثني فلان قال، ثنا فلان عن فلان عن فلان[10]

فالإسناد عمدة المحدثين ومصدر أساسي لإعطاء كل حديث حقه اللائق به، ويتفرع من خلال الإسناد:

1-معرفة ألقاب الحديث ومسمياته، مثل: صحيح وحسن وضعيف وشديد الضعف ومنكر وموضوع، ومتصل ومنقطع، ومرفوع وموقوف ومقطوع، ولولا بالإسناد لما تتميز هذه الأنواع وغيرها من أقسام الحديث.

وقال ابن الأثير:” اعلم أن الإسناد في الحديث هو الأصل، وعليه الاعتماد، وبه تعرف صحته وسقمه”[11]

قال القاضي عياض:” اعلم أولا أن مدار الحديث على الإسناد فيه تتبين صحته ويظهر اتصاله”[12]

2- معرفة مراتب الإسناد عند المحدثين: وتشمل معرفة العالي والنازل من أسانيد الحديث، فالأسانيد العالية مرغوب فيها جدا عندهم، لأنها أقرب إلى السلامة من الخلل والخطأ نظرا لقلة رجالها، ومن هنا كانت الرحلة لأجلها عبادة وسنة مستحبة يعتز بها المحدثون.

قال محمد بن أسلم الطوسي الإمام الزاهد: قرب الإسناد قربةٌ إلى الله تعالى.[13]

وقال أحمد بن حنبلٍ الإمام: طلب الإسناد العالي سنةٌ عمن سلف.[14] وقيل ليحيى بن معينٍ الإمام في مرضه الذي مات فيه: ما تشتهي؟ قال: بيتٌ خالٍ، وإسنادٌ عالٍ.[15] وفي كتاب ” الرحلة في طلب الحديث للخطيب” بعض قصص القوم التى عبرت عن مدى اهتمامهم بطلب الأسانيد العالية لتصحيح الأحاديث.

3- معرفة الأحاديث المتواترة والمشهورة والآحاد حتى غريب الأحاديث، وكلما اشتهر إسناد الحديث تيسر الحكم عليه قبولا أو ردا، ولذا تحركت همم المحدثين بجمع جميع الروايات للحديث الواحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، إضافة إلى أنه سبيل التفقه والكشف عن ملابسات الحديث وتفسيره وحقيقة المراد منه.

يقول إبراهيم بن سعيد الجوهري أحد الحفاظ:” إن لم يكن الحديث عندي من مائة طريق فأنا فيه يتيم”.[16]

وقال يحيى بن معين:” لو لم نكتب الحديث خمسين مرة، ما عرفناه”.[17]

قال علي بن المديني: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه[18]

وقال ابن دقيق العيد: إذا اجتمعت طرق الحديث يستدل ببعضها إلى بعض، ويجمع بين ما يمكن جمعه، ويظهر به المراد.[19]

4- معرفة صفة من يقبل حديثه ومن يرد، أي من حيث العدالة والضبط، وعلى إثره نشأ علم الجرح والتعديل، الميزان المتين في نقد رجال الحديث، وبالجرح تسلب عدالة الراوى أو ضبطه، وبالتعديل تعرف عدالته وتمام ضبطه أو خفته.   

عن يحيى بن سعيد، قال: سألت شعبة وسفيان بن سعيد وسفيان بن عيينة ومالك بن أنس عن الرجل لا يحفظ أو يتهم في الحديث، فقالوا لي جميعا: بيّن أمره.[20]

وقال محمد بن بندار السباك الجرجاني: قلت لأحمد بن حنبل: إنه ليشتد عليّ أن أقول: فلان ضعيف فلان كذاب. قال أحمد: إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟ ![21]

وثمة مصنفات متنوعة أفردت لبيان أحوال النقلة جرحا وتعديلا، ومن أعظمها: كتاب الجرح والتعديل لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وفي طياته صفة من تقبل روايته ومن ترد.

ثمرات الإسناد وآثاره

تمكن علماء الحديث بواسطة تحكيم الأسانيد في رواية الأخبار من:

1-إبراز مكانة السنة النبوية وتوقيرها كتوقير كتاب الله تعالى من حيث الاتحاد في التشريع والمرجع

2-صيانة الحديث النبوي من أي نقص أو زيادة أو تحريف أو تبديل أو اختلاق،وبذلك تم السد المنيع أمام دسيسة الفجرة في السنة النبوية

3-تمكين الفقهاء لعملية الاستنباط على ضوء الأخبار المقبولة، وفي ذلك حفظ لعموم أحكام الدين.

وبهذا يتضح لك تمام معنى مقول سلف الأمة الشهير:الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”[22]  و”إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”.[23]


[1] رواه مسلم في مقدمة الصحيح 1/ 8

[2] مجموع الفتاوى 10/382

[3] كتاب المجروحين: 1/19.

[4] رواه أحمد في المسند (2947) وغيره

[5] شرف أصحاب الحديث، ص: 40

[6] المصدر السابق: 42

[7] السنة المفترى عليها، ص:337

[8] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/102

[9] معرفة علوم الحديث ص:6

[10] كتاب المجروحين: 1/19

[11] جامع الأصول 1/1-9

[12] الإلماع، ص: 194.

[13] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/123

[14] المصدر السابق

[15] معرفة أنواع علم الحديث: 363.

[16] توضيح الأفكار 1/195

[17]تذكرة الذهبي 430

[18] مقدمة ابن الصلاح 195

[19] فتح المغيث 3/299

[20] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/168

[21] المصدر السابق 2/202

[22] شرف أصحاب الحديث، ص:41

[23] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/129