ما زلنا نواصل التعريف الموجز بأهم سبعة كتب من التراث الفكري للشيخ الغزالي، والذي تجاوز السبعين كتابًا.. وذلك بعد أن تناولنا في المقال السابق ثلاثة كتب منها، هي: فقه السيرة، مع الله.. دراسات في الدعوة والدعاة، نظرات في القرآن.
مشكلات في طريق الحياة الإسلامية:
في هذا الكتاب يعالج الشيخ الغزالي عددًا من القضايا المهمة المتصلة بالواقع وكيفية التعامل معه؛ فيقول: “لا بد من بصيرة فاحصة متعمقة، تتدبر ثقافتنا، وتنقي منابعها! وتنقذ مستوانا الحضاري الأخير، وتستكشف أسباب هبوطه! وفي هذا الكتاب نماذج لقضايا خاضها أو سيخوضها العاملون في الحقل الإسلامي أحببت أن أشرحها على ضوء ما بلوتُ من تاريخنا الحاضر والغابر، لعلها تعصم من مزالق، وتنبه إلى حقائق، وتقود إلى الخير”([1]).
ويؤكد “إن المدافعين لا ينقصهم غالبًا الحماس والإخلاص، وإنما ينقصهم عمق التجربة وحسن الفقه”([2]).
ويتأسف الشيخ لأن البعض يحسب “أن حال المسلمين اليوم وليد علل عارضة ، ومن السهل إزالتها في أيام معدودات، أو على الأكثر في بضع سنين من حياتهم هم.. ثم يعود المسلمون إلى مجدهم الأول أيام الصحابة والتابعين؛ وما على الشباب إلاَّ أن يُقْدِم ويقاتل ويحطم ما أمامه من عوائق، وسوف يبتسم له النصر بعد مرحلة أو مرحلتين!!”([3]).
لكن الشيخ يبين أن “هذا الاستعجال كان وراءه متاعب كثيرة، وخسائر ثقيلة للدعوة الإسلامية بل ربما زاد خصومها تمكينًا وضراوة”([4]).
ويؤكد رحمه الله أن “إقامة دين الله شيء ومجرد الاستيلاء على الحكم بطريقة أو بأخرى شيء آخر. إن إقامة دين الله تعني قبل كل شيء تأسيس علاقة زاكية بين المرء وربِّه ، منزهة عن طلب الدنيا والتَّشبُّع من لذائذها، والاستعلاء في أرجائها: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا}. كما تعنى الإسهام في بناء مجتمع عالمي يعرف المعروف، وينكر المنكر، ويحترم الحقوق، ويوقِّر رب العالمين”([5]).
ومن بين القضايا المهمة التي ركز عليها الشيخ الغزالي في هذا الكتاب، تصحيح (مفهوم العبادة)؛ فيقول: عندما ننظر إلى العبادات السماوية نجد أداءها في اليوم والليلة لا يستغرق نصف ساعة، ونجد تعاليمها تستغرق صفحة أو صفحتين، ويبقي الزمان بعد ذلك واسعًا، والمجال رحبًا لفهم الحياة واكتشاف طاقاتها، وتسخيرها كلاًّ وجزءًا لخدمة الدين. وكلُّ جهدٍ يبذل في ذلك يسمَّى شرعًا: عملاً صالحًا، وجهادًا مبرورًا، وضميمةً إلى الإيمان تؤهِّل المرء لرضوان الله: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (الأنبياء: 94)”([6]).
وتصحيحًا للتصورات الخاطئة التي تظن أن (العبادة) محصورة داخل جدران المسجد، ينبهنا فضيلته قائلاً: “من المستحيل إقامة مجتمع ناجح الرسالة إذا كان أصحابه جُهَّالاً بالدنيا، عجزة في الحياة. والصالحاتُ المطلوبة تصنعها فأس الفلاح، وإبرة الخياط، وقلم الكاتب، ومشرط الطبيب، وقارورة الصيدلي، ويصنعها الغوّاص في بحره، والطيّار في جوّه، والباحث في معمله، والمحاسب في دفتره، يصنعها المسلم صاحب الرسالة وهو يباشر كل شيء، ويجعل منه أداة لنصرة ربه وإعلاء كلمته”([7]).
دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين:
هذا الكتاب من أنفس ما كتب الشيخ رحمه الله، لأنه يعالج أهم القضايا المشتركة بين المسلمين على اختلاف أفهامهم، بحيث يصح أن تكون قاسمًا مشتركًا بينهم، ودستورًا يحفظ وحدتهم من الانفصام.
يقول الشيخ في مقدمة الكتاب: الاستعمار الثقافي دائب على سرقة القلوب والقيم، واجتياح العقائد والشرائع. وحيله كثرت وتشعبت حتى بات يخاف على الأجيال المقبلة! واضمحلال العقل الإسلامي واضح في أغلب ميادين الفقه! وعدد كبير من المشتغلين بفقه العبادات أو المعاملات يحسن النقل التقليدي أكثر مما يحسن الوعى والاجتهاد، ويغلب عليه ضيق الأفق ولزوم مالا يلزم. أما الفشل في شئون الدنيا فأمره مخجل؛ حتى إن ما نأكله من طعام أو ما نأخذه من دواء أو ما نرتديه من لباس يصنعه لنا غيرنا”([8]).
ويضيف: “قد تملكني- وأنا أؤلف هذا الكتاب- شعور بأنه لا قداسة إلا للوحي الأعلى، ولا مكانة إلا للرجال الذين أحسنوا الفقه فيه والعمل به حيث أقامهم القدر. يجب أن تغربل الأفكار والمذاهب والأعراف والتقاليد التي سادت تاريخنا؛ فَقِدَمُها لا يعطيها حق البقاء! والاحترامُ للحق وحده!”([9]).
وينبه الشيخ إلى حقيقة مهمة، وهي أن التحديات الداخلية تجيء أولاً، فيقول: “إن تحديات الدعوة الإسلامية تجيء- قبل أي زحف خارجي- من داخل أرضه، وسوف تتلاشى هذه التحديات كلها يوم يعتنق المسلمون الإسلام، ويدخلون فيه أفواجًا، حكامًا وشعوبًا”([10]).
ويضيف: “إن تحريف الكلم عن مواضعه آفة تصيب الأديان على امتداد الزمان. ولهذا التحريف مظاهر ثلاثة:
1- التدخل في الوحى الإلهي بالحذف والزيادة، اتباعًا للهوى أو غلوًا في الدين.
2- التأويلات الفاسدة والتفاسير الباطلة لما ورد من نصوص.
3- تعطيل العمل بطائفة من الأوامر والنواهي، وتوارث هذا العطل من جيل إلى جيل حتى تنشأ خلوف قاصرة تظن ما أُهمل قد نُسخ وباد.
ومن حسن حظنا- نحن المسلمين- أن كتابنا محفوظ بعناية الله؛ فالأصل الذي نحتكم إليه قائم دائم؛ ومن حسن حظنا أن الإجماع منعقد على أركان الإسلام”([11]).
السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث:
هذا كتاب تعرض الشيخ بسببه لهجوم حاد؛ لأن البعض لم يستوعب رسالة الكتاب الأساسية؛ وهو ما اضطر الشيخ لأن يجدد التأكيد أنه لم يشذ عن قافلة الإسلام؛ فقال: “أؤكد أنني مع جمهرة الفقهاء والمتحدثين عن الإسلام، ولست صاحب مذهب شاذ؛ بل إنني من صميم الجماعة [العلمية] ومن حماة أهدافها، وأولو العلم يعرفون ما أعني. والخطورة تجيء من أنصاف متعلمين أو أنصاف متدينين يعلو الآن نقيقهم في الليل المخيم على العالم الإسلامي، ويعتمد أعداء الإسلام على ضحالة فكرهم في إخماد صحوة جديدة لديننا المكافح المثخن بالجراح”([12]).
ويشكو الشيخ من الأفهام الخاطئة واختلال الأولويات، قائلاً: “لقد نجح بعض الفتيان في قلب شجرة التعاليم الإسلامية؛ فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعها أو جذورًا، وجعلوا الأصول المهمة أوراقًا تتساقط مع الرياح!”([13]).
ويوجه الشيخ رسالة ذات عنوانين كبيرين، هما الاهتمام بالقرآن، وربط السنة بالقرآن، فيقول: “وأنا أتوجه إلى الأوصياء الكبار على تراث السلف، أن يراجعوا أنفسهم كي يهتموا بأمرين:
أولهما: زيادة التدبر لآيات القرآن الكريم.
وآخرهما: توثيق الروابط بين الأحاديث الشريفة ودلالات القرآن القريبة والبعيدة؛ فلن تقوم دراسة إسلامية مكتملة ومجدية إلا بالأمرين معًا”([14]).
ويضيف: “إن الصلف مع العلم رذيلة، فكيف إذا كان الصلف مع عجز وقصور؟!… إن عدم سيطرة الحقائق الكبيرة على الوعي الإنساني لا يمكن التغاضي عنه. وشيء آخر نريد الحديث عنه! ما هو المنطق الذي عوملت به القضايا الثانوية بعدما استحوذت على الأفكار؟ لقد شاعت الأقوال الضعيفة والمذاهب العسرة، ورجحت الآراء التي كانت مرجوحة أيام الازدهار الثقافي الأول، حتى وهل الناس أن الإسلام إذا حكم عاد إلى الدنيا التزمت والجمود!!”([15]).
وفي قضية فهم السنة النبوية، يؤكد الشيخ الغزالي أن المحدِّثين لا يستأثرون وحدهم بالسنة، ودعا إلى تكامل عمل المحدثين مع الفقهاء؛ قائلاً: “ذلك أن الحكم بسلامة المتن يتطلب علمًا بالقرآن الكريم، وإحاطة بدلالاته القريبة والبعيدة، وعلمًا آخر بشتى المرويات المنقولة لإمكان الموازنة والترجيح بين بعضها والبعض الآخر. والواقع أن عمل الفقهاء متمم لعمل المحدثين، وحارس للسنة من أي خلل قد يتسلل إليها عن ذهول أو تساهل”([16]).
كما بيَّن الشيخ أن قبول الحديث يرتبط بالسند والمتن معًا، وأن العلماء وضعوا شروطًا للسند وأخرى للمتن؛ مثل اتصال السند، وأن يكون الراوي عدلاً ضابطًا.. وألا يكون المتن شاذًّا بأن يخالف الثقة من هو أوثق منه، وألا تكون بالمتن علة قادحة.
وأكد رحمه الله أن ردَّ الحديث لعلةٍ لا يعني الاستهانة بالسنة.. وأن صحة السند لا تعني صحة المتن؛ فقد يصح الحديث سندًا ويضعف متنًا بعد اكتشاف الفقهاء لعلة كامنة فيه. واكتشافُ الشذوذ والعلة في متن الحديث ليس حكرًا على علماء السنة، فإن علماء التفسير والأصول والكلام والفقه مسئولون عن ذلك، بل ربما ربت مسئوليتهم على غيرهم. ألم تر إلى ابن حجر– على صدارته في علوم السنة- قوَّى (حديث الغرانيق)، وأعطاه إشارة خضراء فمرَّ بين الناس يفسد الدين والدنيا؛ والحديث المذكور من وضع الزنادقة، يدرك ذلك العلماء الراسخون! وقد انخدع به الشيخ محمد بن عبد الوهاب فجعله في السيرة التي كتبها عن رسوله الله ﷺ؛ والشيخ هو مَن هو غيرةً على عقيدة التوحيد ودفاعًا عنها. ثم جاء الوغد الهندي سلمان رشدي فاعتمد على هذا الحديث المكذوب في تسمية روايته «آيات شيطانية!»([17]).
نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم:
كانت للشيخ الغزالي رحمه الله عناية شديدة بالقرآن الكريم، وخاصة بالتفسير الموضوعي فيه؛ لأن هذا النوع من التفسير يكشف عن الوحدة الموضوعية للسورة.. كما يكشف عن معالجة الموضوعات بطريقة متكاملة عبر السور المختلفة.. بخلاف التفسير الجزئي الذي ينشغل بالآيات كلمة كلمة، مع أهمية هذا النوع طبعًا.
يقول الشيخ: “الهدف الذي سعيت إليه أن أقدم تفسيرًا موضوعيًّا لكل سورة من الكتاب العزيز. والتفسيرُ الموضوعي غير التفسير الموضعي: الأخير يتناول الآية أو الطائفة من الآيات فيشرح الألفاظ والتراكيب والأحكام! أما الأول فهو يتناول السورة كلها، يحاول رسم “صورة شمسية” لها تتناول أولها وآخرها، وتتعرف على الروابط الخفية التي تشدها كلها، وتجعل أولها تمهيدًا لآخرها، وآخرها تصديقًا لأولها”([18]).
ويضيف: لقد عُنيت عناية شديدة بوحدة الموضوع في السورة، وإن كثرت قضاياها، وتأسيت في ذلك بالشيخ محمد عبد الله دراز عندما تناول سورة البقرة- وهى أطول سورة في القرآن الكريم- فجعل منها باقة واحدة ملونة نضيدة، يعرف ذلك من قرأ كتابه (النبأ العظيم) وهو أول تفسير موضوعي لسورة كاملة، فيما أعتقد”([19]).
ويشير إلى أنه شعر- على ضوء ما أحسّ من نفسه- أن المسلمين بحاجة إلى هذا اللون من التفسير! “كيف؟ لقد صحبتُ القرآن من طفولتي، وحفظته في سن العاشرة، وما زلت أقرؤه وأنا في العقد الثامن من العمر.. بدا لي أن ما أقبسُ من معانيه قليل، وأن وعيي لا يتجاوز المعاني القريبة والجمل المرددة، فقلت: إني ما قضيت حق التدبر فيه كما أمر مُنزله العظيم! يجب أن أغوص في أعماق الآية لأدرك رباطها بما قبلها وما بعدها، وأن أتعرف على السورة كلها متماسكة متساوقة”([20]).
ويؤكد الغزالي أن “القرآن الكريم خلاصة ما أنزل الله من وحي في القرون الأولى، وقد توافر له من الحفظ ما ضمن له الخلود؛ ولا يوجد في الأولين والآخرين كتاب وعته القرائح وسجلته الصحائف وحفه التواتر حرًفا حرفًا، إلا هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”([21]).
ويلفت إلى أنه يختار من الآيات ما يبرز ملامح الصورة، ويترك غيرها للقارئ يضمها إلى السياق المشابه، وذلك حتى لا يطول العرض ويتشتت، والإيجاز مقصود.
كما ينبه “إلى أن هذا التفسير الموضوعي لا يغنى أبدًا عن التفسير الموضعي؛ بل هو تكميل له وجهد ينضم إلى جهوده المقدورة”([22]).
ويضيف: “وهناك معنى آخر للتفسير الموضوعي لم أتعرض له! وهو تتبع المعنى الواحد في طول القرآن وعرضه وحشده في سياق قريب، ومعالجة كثير من القضايا على هذا الأساس. وقد قدمت نماذج لهذا التفسير في كتابي (المحاور الخمسة للقرآن الكريم) و(نظرات في القرآن)”([23]).
كانت هذه وقفات موجزة لأهم كتب الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله رحمة واسعة، وتقبله في الصالحين المجددين، ونفعنا بتراثه وفكره..
([1]) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، ص: 18، 19.
([2]) ص: 17.
([3]) ص: 17.
([4]) ص: 17.
([5]) ص: 18.
([6]) ص: 24.
([7]) ص: 24، 25.
([8]) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص: 8.
([9]) ص: 10.
([10]) ص: 15.
([11]) ص: 20.
([12]) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، ص: 8.
([13]) ص: 8.
([14]) ص: 8، 9.
([15]) ص: 9، 13.
([16]) ص: 19.
([17]) ص: 19، 20.
([18]) نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ص: 5.
([19]) ص: 5.
([20]) ص: 5.
([21]) ص: 6.
([22]) ص: 6.
([23]) ص: 6.