يستصحب في الإفتاء في القضايا النازلة أحكام الفتوى وآدابها كما ذكرها علماء الأصول مما هو مبين في كتبهم، ولكن يضاف إليها بعض الضوابط الأخرى التي تلتصق التصاقا شديدا بالمستجدات، بحيث تمثل خصوصية للفتوى في النوازل والمستجدات، ومن أهم تلك الضوابط:
الضابط الأول: فهم المسألة فهما دقيقا
ذلك أن الإفتاء في النازلة ليس مجرد نقل رأي لأحد الأئمة، ولكنه إعمال للعقل على قواعد الشرع؛ فالإفتاء هنا أشبه بالمعادلات الرياضية والكيمائية التي تحتاج إلى إعمال أدوات مع حسن تفهم وتدبر.
فعلى المفتي جمع المعلومات الكافية حول القضية، وإعطاؤها حقها من الإيضاح والاستيعاب([1]). وذلك أنه لا يمكن للإنسان أن يحكم على شيء إلا إذا كان عنده تصور كامل عنه، ولهذا حدد أبو البقاء الفتوحي أن علم أصول الفقه يُستمد من ثلاثة أشياء: من أصول الدين، ومن العربية، ومن تصور الأحكام؛ فالأحكام إما أن تثبت من جهة ثبوت حجية الأدلة، فهو أصول الدين، وإما من جهة دلالة الألفاظ على الأحكام، فهو العربية بأنواعها، وإما أن يكون التوقف من جهة تصور ما يدل به عليه، فهو تصور الأحكام. وقال:”وأما توقفه من جهة تصور ما يدل به عليه، من تصور أحكام التكليف، فإنه إن لم يتصورها لم يتمكن من إثباتها، ولا من نفيها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره([2]).
وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم فقال: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله”([3]).
فالتصور جزء أصيل من عملية التمهيد للإفتاء، وبدونه يكون الإفتاء خارج الإطار الصحيح، بل يوقع غالبا في الخطأ والزلل؛ لأن صحة الحكم تتوقف على صحة التصور.
فالاشتراك في الحكومة الانتقالية بالعراق مثلا، أو الاستفتاء على الدستور العراقي في ظل الاحتلال، أو الموافقة على الاعتراف بدولة إسرائيل بحدود عام 1967م، أو الحكم على جواز إنتاج فيلم عن المسيح، أو مسألة المرابحة للآمر بالشراء أو غيرها من الأمور المستحدثة يجب أن تدرك أولا، حتى لا يفتى بخلاف مقتضى النصوص ومقاصدها.
وكما يرى الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي أن المتأمل في بعض فقهاء العصر يجد بعضهم يجازف بالفتوى في أمور المعاملات الحديثة مثل التأمين بأنواعه وأعمال البنوك والأسهم والسندات وأصناف الشركات، فيحرم ويحلل، دون أن يحيط بهذه الأشياء خبرًا ويدرسها جيدًا، ومهما يكن علمه بالنصوص عظيما ومعرفته بالأدلة واسعة، فإن هذا لا يغني ما لم يؤيد ذلك معرفة تامة بالواقعة المسئول عنها وفهمه لحقيقتها الراهنة([4]).
الضابط الثاني: تحليل القضية المركبة إلى عناصرها الأساسية
فعلى المفتي أن يحلل القضية المركبة إلى أجزائها التي تتكون منها كما في بيع المرابحة للآمر بالشراء، فإنها تحلل إلى بيع ووعد، وبيع مرابحة بأكثر من سعر يومه لأجل التأجيل([5])؛ وذلك لأن المسائل إما بسيطة لا تحتاج إلى تحليل، أو مركبة، وتلك التي نحتاج إلى تحليلها قبل إبداء الرأي فيها.
الضابط الثالث: التمهل وإعطاء البحث والفكر وقته
فمن الواجب على المفتي ألا يتعجل بإخراج رأي، وخاصة أن النازلة غالبا ما لا يكون فيها رأي.
وقد ورد عن الإمام مالكأنه كان يجلس في المسألة الليالي العديدة حتى يصل فيها إلى رأي، بل ربما تطول كما قال: “إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن”[6]؛ فإدراك طبيعة الإفتاء تدفع المفتي إلى التمهل والتثبت، كما قال الإمام ابن القيم: “وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات؛ فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب”([7]).
الضابط الرابع: الاتصال بأهل الاختصاص في موضوع القضية
يجب الاتصال بأهل الاختصاص في موضوع القضية، واستفسارهم، والتأكد منهم عن جميع المعلومات المتعلقة بالقضية، وطلب رأيهم وتوضيحهم لأي غموض أو إشكال يعترض المفتي في فهم تلك القضية وما يحيط بها من ملابسات([8])، عملا بقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )([9])، وقد ورد عن النبي ( ﷺ) أنه قال: “لا ينبغي للعالم أن يسكت عن علمه، ولا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله. وقد قال الله (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) فينبغي للمؤمن أن يعرف عمله على هدى أم على خلافه”([10]).
فإذا كانت القضية تتعلق بعلم الاقتصاد، فينبغي الرجوع إلى أهل الاختصاص فيه، أو تتعلق بالسياسة رجع فيها إلى أهل السياسة، أو كانت قضية تتعلق بالعلاقات الاجتماعية، وجب الرجوع فيها إلى علماء الاجتماع، أو كانت مسألة إعلامية رجع فيها إلى علماء الإعلام، أو فنية، رجع فيها إلى أهل الفن وخبرائه، وهكذا في كل فن وعلم. فاستقلال الفقهاء بالإفتاء دون الرجوع إلى أهل الاختصاص يوجب نقصا في التصور والإدراك، مما يترتب عليه خلل في التكييف الفقهي للمسألة، وخروج الاجتهاد عن مساره الصحيح.
الضابط الخامس: الإفادة من اجتهادات السابقين
فربمــا ظن المفتي أنه لــم يسبق في اجتهــاده، وقد سبقه غيره ممن عاصره، بل ممن سبقـه. وقـد قال ابن عبد البــر: “لا يكـــون فقيهــا في الحادث من لم يكن عالما بالماضي”([11])، ومن ذلك، فعلى المفتي و الفقيه أن يفيد من كتب الفتاوى القديمة والمعاصرة، وأن يرجع إلى قرارات المجامع الفقهية، كمجمع البحوث الإسلامية بمصر، ومجمع الفقه بجدة، والمجمع الفقهي بمكة المكرمة، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ومجمع الفقه بالهند، ومجمع فقهاء أمريكا الشمالية، ولجان الإفتاء كلجنة الفتوى بالجامع الأزهر، ودار الإفتاء المصرية، ولجنة البحوث العلمية الدائمة والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، ولجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف الكويتية، أو غيرها من لجان الإفتاء الجماعية، وغيرها من الهيئات والمؤسسات واللجان الفقهية والإفتائية.
الضابط السادس: تفعيل المقاصد الشرعية، وفقه الأولويات وفقه المآلات
وهي أصول عظيمة في طبيعة الاجتهاد المعاصر، كما يقول الإمام الشاطبي: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة قد تستجلب أو لمفسدة قد تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع، لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكنْ له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من انطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة مثلها أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة”([12]).
الضابط السابع: مراعاة المصالح المتغيرة والمستجدة
فالفتوى بنت بيئتها وزمانها، ومن سنن الله – تعالى – في الكون التغير والاختلاف، قال ابن القيم: “من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل،.. وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم([13]).
وقال: “….. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل”([14]).
والناس إزاء هذه المصالح المستجدة نوع من ثلاثة:
- إما أن يحاول أن يجد لها شيئا مما سبق من كتب الفقه القديمة.
- أو أنه يسارع للتحريم.
- أو أنه يبيحها من باب الضرورة.
والطرق الثلاثة لا تولد اجتهادا معتبرا، بل لا بد من الاجتهاد بأدواته وبذل الجهد للوصول إلى الحكم الشرعي في النازلة أو المستجدة([15]).
ويؤكد على ذلك الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ عند الحديث عن المصالح وترتيبها ودرجاتها، فيقول: “…. القرآن وسنة رسول الله ( ﷺ) مملوءان من تعليل الأحكام والمصالح وتعليل الخلق بها، والتنبيه على وجوه الحِكم التي لأجلها شرع الأحكام ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناهما، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة”([16]).
الضابط الثامن: اعتبار اختلاف العادات والتقاليد
فاختلاف العادة والعرف، يوجب اختلاف الفتوى؛ “لأن انتقال العوائد يوجب انتقال الأحكام”([17])، و”الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك”([18]).
وقد اشترط الفقهاء والأصوليون شرائط يكون فيها العرف معتبرًا؛ صيانة لأحكام الشريعة من التبديل والاضطراب، وهي باختصار:-
- ألا يكون مخالفا للنص، بل يكون عرفا صحيحا.
- أن يكون مطردا أو غالبا.
- أن يكون العرف الذي يحمل عليه التصرف موجودا وقت إنشائه، بأن يكون حدوث العرف سابقا على وقت التصرف، ثم يستمر إلى زمانه فيقارنه.
- ألا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه..([19]).
الضابط التاسع: تحصيل دربة الإفتاء
وذلك بملازمة المفتين الثقات، وتحصيل طريقتهم وتشرب منهجهم، ومعرفة عللهم، والوقوف على مناهجهم، وعدم الاقتصار على ما جاء عنهم في الكتب، فتحصيل ملكة الإفتاء لا تتأتى من الكتب وحدها، وقد حذر الإمام اللخمي من الاعتماد على الكتب في فتاوى النوازل، ورأى أن “العمل بالكتب لمن لا يدري لا ينجو من الخطأ من وجوه منها: أن النازلة لا تجيء مثل نص الكتاب إلا نادرا، وأكثر ما يجيء شبيه لها، أو لا علم له بالأصول التي قام بها القوم، يخرج من الأصل ويقع في الخطأ وهو لا يعلم” ([20]).
الضابط العاشر: إدراك الأصول الفقهية
فلا بد للمفتي في النوازل أن يدرك أصول الفقه من الأدلة والأقيسة والعلل، فيعرف رتب العلل ونسبتها إلى المصالح، الضرورية، والحاجية، والتحسينية، ومن أي مرتبة من مراتب المناسب، على آخر ما هو مبسوط في أصول الفقه. ولا يعدو في النظر المطابقة بين تحقق العلة أو الدليل في القضية الجديدة والقضية المخرج عليها([21]).
([1]) – راجع: ضوابط الفتوى في القضايا المعاصرة، د. عبد المجيد محمد السوسوه، أستاذ مشارك في كلية الشريعة –بجامعة الشارقة وجامعة صنعاء، ص: 254
([2])- راجع: شرح الكوكب المنير لابن النجار، ص:14-15، تحقيق: د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد طبع: جامعة أم القرى – معهد البحوث العلمية -، الطبعة الثانية، 1413 هـ
([3]) – إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم، ج1/69.
([4])- راجع: الفتوى بين الانضباط والتسيب، الدكتور يوسف القرضاوي، ص: 74، طبع دار الصحوة
([5])- ضوابط الفتوى في القضايا المعاصرة، د. عبد المجيد محمد السوسوه، ص: 255
([6]) – ترتيب المدارك للقاضي عياض، تحقيق أحمد بكير محمود ج1/178 ـ مكتبة الحياة ـ بيروت ـ بدون تاريخ.
([7]) – إعلام الموقعين عن رب العالمين، للإمام ابن القيم، ج1/9
([8])- ضوابط الفتوى في القضايا المعاصرة، د. عبد المجيد محمد السوسوه، ص: 255
([9])- النحل: 43، والأنبياء:7
([10])- رواه الطبراني في الأوسط، راجع: مجمع الزوائد الهيثمي، ج1/165، دار الريان للتراث/ 1407
([11]) – جامع بيان العلم وفضله، يوسف بن عبد البر النمري، ج2/47 دار الكتب العلمية – بيروت – 1398
([12]) – الموافقات في أصول الفقه، للشاطبي ، ج5/178، تحقيق: عبد الله دراز دار المعرفة – بيروت، تحقيق: عبد الله دراز
([13]) – إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج3/66..
([14]) – إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج3/11
([15]) – ضوابط الفتوى في القضايا المعاصرة، د. عبد المجيد محمد السوسوه، ص: 272-273
([16]) – مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن القيم، ج2/22، دار الكتب العلمية بيروت
([17]) – الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق (مع الهوامش ): أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي، ج1/40، تحقيق: خليل المنصور، دار الكتب العلمية – بيروت -، الطبعة: الأولى: 1418هـ – 1998م.
([18]) – السابق، ج1/72
([19]) – انظر: الوجيز في أصول الفقه، الدكتور عبد الكريم زيدان،ص: 256-257 وأصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة، ص:248-249، طبع دار الفكر العربي، سنة: 2006م. ومنهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة.. ، الدكتور مسفر بن علي بن محمد القحطاني، ص: 340، طبع دار الأندلس الخضراء، ودار ابن حزم، سنة: 2003هـ، الطبعة: الأولى
([20]) – نوازل البرزالي، لأبي القاسم بن أحمد البرزالي المالكي، ج1/83، طبع دار الغرب الإسلامي.
([21]) راجع: الفروق للقرافي، ج2/109