تكثر في الرسائل الجامعية العناوين التي تحمل ( الاتجاه الفقهي)، و ( المنهج الفقهي) ، ثم عند قراءة تلك الرسائل، تكون غالبها جمعا للآراء الفقهية، سواء لفقيه بعينه، أو لمذهب فقهي، أو لمدرسة فقهية، وهذا يعني أن هناك خللا حاصلا في الحديث عن الاتجاهات والمناهج الفقهية؛ مما يستلزم منه العروج إلى هذين المصطلحين، وبيان الدلالة الاصطلاحية لهما؛ إسهاما في ضبط استعمالها عند الباحثين والعلماء.
المسألة الأأولى : الاتجاه في اللغة
تعددت معاني الاتجاه في اللغة على النحو التالي:
- الإقبال على الشيء بالوجه .
- كما يطلق الاتجاه على الوجهة، يقال مشى في اتجاه كذا.
- ومن معاني الاتجاه: المسار.
- ومنها أيضا: الاستجابة لموقف.
- و يعرف الاتجاه أيضا بأنه: تهيُّؤٌ عقلي لمعالجة تجربة أو موقف تصحبه عادة استجابة خاصة؛ ومن ذلك: اتجاهٌ سياسي/ اتجاهٌ فكريّ/ اتجاهٌ مضاد([1])
كما تعد المدارس الفقهية تعبيرا عن الاتجاهات، فمدرسة الأثر، ومدرسة الرأي، ومدرسة الجمع بين الأثر والرأي تمثل اتجاهات فقهية. وهذه يمكن اعتبارها أيضا في اتجاهات الإفتاء، وكذلك في الإفتاء نجد اتجاه التيسير، واتجاه التشدد، والاتجاه المقاصدي، والاتجاه القواعدي، ونحو ذلك.
المسألة الثانية: الاتجاه في الاصطلاح
ويطلق الاتجاه الفقهي – في الاصطلاح- على عدة معان، أهمها:
- الحكم الفقهي، فتطلق الاتجاهات الفقهية ويراد بها الآراء الفقهية في المسألة، فقد عرض مؤلفو الموسوعة الفقهية الكويتية خطة كتابتها، وكان منها: عرض الاتجاهات الفقهية : وجاء فيها:” إن الطريقة التي اختيرت لبيان المسائل وأحكامها هي طريقة (الاتجاهات الفقهية ) وهي تختلف عن فصل المذاهب وتكرار المسألة . ففي الطريقة المختارة تحصر الآراء المتعددة في المسألة، متبوعة بما يندرج تحت كل اتجاه من مذهب أو أكثر ، وإذا كان في المذهب الواحد أكثر من رأي فإنه يتكرر ذكره بحسب تلك الروايات مع الاتجاهات المناسبة لها . ويقدم الاتجاه الذي ذهب إليه أكثر الفقهاء ( الجمهور) إلا حيث تقضي منطقية البيان بمخالفة ذلك لتقديم البسيط على ما فيه تركيب أو تفصيل ، وكالبدء بما يتوقف عليه فهم ما بعده “([2]). وعلى هذا النحو جرت كثير من الدراسات في استعامل الاتجاه بمعنى الرأي الفقهي، فتناقش قضية ما، وييبين أن فيها ثلاثة اتجاهات أو أربعة ونحو ذلك.
- الطرق التي سار عليها العلماء في استنباط الأحكام. وهو بهذا المعنى يتقارب مع المنهج الفقهي .
- الخصائص والسمات المميزة لكل فقه ومذهب.
- القضايا الكلية التي تحكم العلماء في النظر الفقهي ([3]).
تعريف المنهج الفقهي
يعرف الدكتور عبد المجيد محمود المنهج بأنه: “الطريق الواضح الذي يبين كيفية تطبيق الفقيه لقضايا وسمات اتجاهه الفقهي” ([4]).
وهذا التعريف يرتكز على طريقة الاجتهاد الفقهي، أو كيفية الإفادة من المصادر والأدلة. وهو جزء أصيل من المنهج، ولكن لا يعد وحده المعبر عن المنهج.
يرى شيخنا الدكتور محمد بلتاجي حسن – رحمه الله- أن المنهج الفقهي أعم من مصادر التشريع، ولمعرفة منهج الفقيه يجب الإجابة عن ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: ما مصادر الفقيه التي يستقي الأحكام التشريعية منها؟ وكيف حدد مفهوم كل مصدر مما أخذ به؟ وذلك لاختلاف المفاهيم حول المصدر الواحد، مما يؤدي إلى اختلاف نتائج استنباط الأحكام التفصيلية .
السؤال الثاني: ما موقفه من المصادر التشريعية التي عرفت في عهده، ورفض الأخذ بها؟
السؤال الثالث: ما موقفه من نتائج اجتهاده؟ هل يعتقد أنها الصواب القطعي؟ هل يرجع عنها إذا تبين له اجتهاد آخر؟ وما موقفه من نتائج اجتهاد غيره، هل يعتبرها خطأ قطعيا؟ وهل يجيب عن كل ما يسأل عنه؟
ومن حصيلة الإجابات عن هذه الأسئلة يتكون ( منهج الفقيه) أو (خطته التشريعية) ([5]) .
تعقيب
الذي يبدو لي أن شيخنا الدكتور البلتاجي ركز على نقطة هامة في المنهج، وهي أن المنهج لا ينحصر في مصادر التشريع وحدها، خاصة أن غالب من يكتب في مناهج الفقهاء يتمركز كلامه عن موقفه من مصادر التشريع، إلا أن شيخنا جعل جل الكلام – أيضا-عن المصادر، فأضاف إلى المصادر المعمول بها: المصادر المتروكة، وكلاهما سؤال واحد يمكن صياغته في موقف الفقيه من مصادر التشريع: ما أخذ منها وما ترك، والوقوف على أسباب أخذه وأسباب تركه.
أما السؤال الثالث وهو موقفه من اجتهاده واجتهاد غيره، فهذا – في ظني – لا يعد من أركان المنهج، بل هو نقطة جزئية فيه، خاصة أن غالب الفقهاء يرون صحة صواب رأيهم مع احتماله الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب، فالموقف من اجتهاده واجتهاد غيره ربما نعده ضابطا في المنهج، ولكنه ليس ركنا من أركانه.
تعريف الدكتور علي جمعة للمنهج الفقهي:
يجعل الدكتور علي جمعة علم ( أصول الفقه) مرادفا للمنهج الفقهي، فيقول:
” الاجتهاد أصل من أصول الفقه كعلم يعد المنهج العلمي عند المسلمين.
فأصول الفقه باعتباره لقبا على ذلك العلم في تعريف مدرسة الرازي الأصولية، هو:
معرفة دلائل الفقه إجمالا، وهو الأصل الأول.
وكيفية الاستفادة منه، وهو الأصل الثاني.
وحال المستفيد، وهو الأصل الثالث.
ولذا سمي هذا العلم بلفظ الجمع ( أصول)، دون لفظ المفرد ( أصل).
وأصول الفقه بهذا يبحث عن : مصادر البحث، وعن كيفية الاستفادة منها، أي: طرق البحث، وعن شروط الباحث، وهو عين ما دعى([6]) إليه الغرب عندما سرى المنهج العلمي من فكر المسلمين وعلومهم إلى مفكريهم([7]).
بل ينص الدكتور علي جمعة على أن ” علم أصول الفقه هو المنهج الذي يوازي المنهج التجريبي في عالم الفيزياء، فأصول الفقه هو منهج المسلمين في الوصول إلى الحقيقة أو الحق في مجال الوحي”([8]).
تعقيب
وإن كان الدكتور علي جمعة قد نحا نحوا متطورا في تعريف المنهج، وإفادته من تعريف المنهج في العلم التجريبي، وأن مكونات المنهج واحدة في المعارف العلمية، سواء أكانت تجريبية أم إنسانية، ومنها الدراسات الإسلامية، فإن الذي يبدو لي أن الركن الثالث من المنهج و هو حال المستفيد لا يعد من أركان المنهج، ولكنه يعد من شروطه، وكما هو معلوم أن هناك فرقا بين الركن والشرط، فلا يمكن اعتبار منهج لأحد دون أن يصل إلى درجة الاجتهاد، فخارج الاجتهاد ليس هناك منهج فقهي، ولهذا فقد يكون الإنسان مجتهدا، ولكن ليسه له منهج فقهي واضح المعالم، أو خطة تشريعية يسير عليها ، كما عبر عن ذلك شيخنا الدكتور البلتاجي، فضلا عن اعتبار علم أصول الفقه مرادفا للمنهج؛ لأن هناك من مباحث العلم ما دعا بعض العلماء إلى تنقيته منها، وإعادة النظر في هيكلة علم أصول الفقه، والتجديد في بعض مباحثه، وعلى رأس هؤلاء شيخنا الدكتور علي جمعة.
الرأي المختار في تعريف المنهج الفقهي:
فالمنهج الفقهي كما أرتضيه هو: معرفة موقف الفقيه المجتهد من مصادر وأدلة الأحكام، عملا وتركا، وبيان خطته التشريعية في تشغيل المصادر المعمول بها عنده، بحيث يظهر أثر ذلك في اجتهاده باضطراد.
فالمنهج له ركنان أساسان:
الأول: مصادر البحث.
الثاني: طرق البحث.
أما البحث في حال المجتهد، فهو شرط من شروط المنهج الفقهي، وبيان موقف الفقيه من اجتهاداته واجتهادات غيره هو ضابط من ضوابط المنهج.
وعلى هذا، فمن العسير أن نقول: إن هناك منهجا – بالمعنى الاصطلاحي- لدار الإفتاء المصرية في الإفتاء بشكل عام، ولا ينقض هذا ما بينا لها من أصول، فقد يكون للفقيه خطة فكرية معينة، لكنها لا ترتقي إلى مستوى المنهج، ويدعمنا في ذلك ما قاله شيخنا الدكتور محمد بلتاجي :” هناك بعض الجهود الفقهية لبعض فقهاء القرن الثاني لا تكشف – فيما بقي بين أيدينا- عن مناهج تشريعية بالمعنى الذي تقدم …، غير أنها على وجه العموم- وكأي فكر بشري آخر- تصدر عن خطة فكرية معينة”([9]).
وإن كان من مفت – ممن هم محل الدراسة- له منهج فقهي، فهو الدكتور علي جمعة، ولكننا لا يمكن لنا اعتبار هذا المنهج معبرا عن مؤسسة دار الإفتاء المصرية، إلا في زمن توليه، وفي الفتاوى التي تصدر منه شخصيا دون الفتاوى التي ربما خرجت عن أقسام بالدار يقوم عليها بعض تلامذته.
ولعل السبب في عدم اعتبار منهجية لدار الإفتاء – بالمعنى الاصطلاحي- أن غالب من تولي المنصب – ممن هم محل الدراسة- لم يكونوا أصوليين، بل كانوا إما فقهاء، كالشيخ جاد الحق – رحمه الله-، أو الدكتور نصر فريد واصل، فغلب عليهم الجانب الفقهي دون المنهج الأصولي، أو لأنهم لم يتخصصوا في الفقه والأصول بطريقة عميقة، كباقي المفتين غير من ذكر.
الفارق بين الاتجاه والمنهج
وعلى هذا فالاتجاه هو الوصف العام لخطة الفقيه في الاجتهاد والاستنباط، أما المنهج، فهو بيان موقف الفقيه من مصادر البحث ، وطريقة تطبيقه لها، كما أن المنهج يشتمل على الأصول والأدلة التي استند إليها في الاجتهاد والإفتاء، والبحث في المصادر والمراجع التي استند إليها، وكانت محلا للاستشهاد والاستزادة العلمية. بالإضافة إلى شرط التكوين الفقهي الذي يؤهله للاجتهاد.
والاتجاه الذي ارتضيته هنا في الفتاوى المقصود به: أهم السمات البارزة والغالبة في معالجته للفتاوى، تلك التي تميز بها عن أقرانه، وغلبت على فتاويه، كما أنه يتمثل في أهم القضايا الكبرى التي كان لها تأثير على فتاوى كل مفت.
كما يجب الانتباه إلى أنه من الضروري الالتفات إلى التمايز بين الاتجاهات في الاجتهاد الفقهي، والاجتهاد الإفتائي، مع كون الأولى هي الأصل الغالب الذي يعتمد عليه، لكن لا تنصهر اتجاهات الإفتاء في اتجاهات الاجتهاد الفقهي، فالتمييز بين الفقه والفتوى يوجب التمييز بين الاتجاهات في كل منها.
([1])- المحيط، أديب اللخمي وآخرون، مادة ( وجه)، و معجم الغني، الدكتور عبد الغني أبو العزم، مادة ( وجه)
([2])- الموسوعة الفقهية، ج1-67-68
([3])-التعريفات الثلاثة الأخيرة نقلا عن الدكتور عبد المجيد محمود بتصرف، راجع: الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري ، ص، 11مكبة الخانجي : 1399هـ= 1979م
([4])- المرجع السابق بتصرف، نفس الصفحة
([5])- راجع: مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري، الدكتور محمد بلتاجي، ج1/ : 16-17، مكتبة البلد الأمين، الطبعة الثانية: 1420هـ
([6])- هكذا في الأصل المطبوع، والصواب: دعا؛ لأن أصل الألف واوا، فالمضارع منه يدعو.
([7])- آليات الاجتهاد، الدكتور علي جمعة، ص: 5، وراجع: أصول الفقه وعلاقته بالفلسفة الإسلامية، الدكتور علي جمعة، ص: 3، دار الرسالة، الطبعة الأولى: 1424هـ = 2002م.
([8])- الطريق إلى التراث الإسلامي ..مقدمات معرفية ومداخل منهجية ، الدكتور علي جمعة، ص: 119، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة: 2007م
([9])- راجع: مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري، الدكتور محمد بلتاجي، ج1/ هامش ص: 20، مكتبة البلد الأمين، الطبعة الثانية: 1420هـ