من الشائع في بعض الكتابات الإسلامية ـ القديمة والحديثة ـ أن القرآن المكي ليس فيه أحكام وتشريعات، أو أنها نادرة فيه إن وجدت.

ويرى بعض الأصوليين أن (آيات الأحكام) في القرآن الكريم، هي عموما قليلة ومحصورة، وبعضهم يعدها عدا ويحددها بالأرقام، وهي على جميع الإحصاءات أو التقديرات، تتراوح بين مائة وخمسين آية وبضع مئات من الآيات.…

وهذا التضييق ـ أو هذا الشح ـ في تقدير آيات الأحكام، ينبني أولا على التضييق الذي حصل في مفهوم الشريعة والتشريع والأحكام الشرعية، وينبني ثانيا على حصر مفهوم (الأحكام)، في الأحكام الجزئية التطبيقية المباشرة. فمن هنا تغيب الكليات والقواعد والأحكام الكبرى التي يزخر بها القرآن الكريم.

ولم يقف الأمر عند الاختلاف في التسمية والاصطلاح، أو عند تصنيف الأحكام والمقتضيات الشرعية، على هذا الأساس أو ذاك، بل امتد وتحول إلى قدر كبير من الإغفال وعدم الإعمال للنصوص والقواعد الكلية، ولمصدريتها وحجيتها في استنباط الأحكام وتوجيهها…

نجد معظم السادة المفسرين عندما يصلون إلى الآيات الكلية، يمرون بها ـ في الغالب ـ مرّاً خفيفا، ومنهم من لا يقف عند بعضها أصلا، فإذا وصلوا إلى آية ذات موضوع فقهي، جزئي ومباشر، وقفوا وأطالوا الوقوف، فحللوا وعللوا، ونقبوا وقلبوا، وتعمقوا ودققوا…

ونجد كثيرا من السادة الفقهاء، حين بحثِهم لحكم من الأحكام الفقهية، يجمعون له كل ما لديهم من نصوص جزئية ذات صلة، ومن أقوال السلف وآراء الخلف، ومن الأقيسة والتخريجات والتشبيهات، وقد يكون منها ما هو غير صريح، أو غير ملائم، أو ضعيف الصلة بالحالة أو النازلة موضوع البحث. ولكنهم قليلا ما يحتكمون إلى عمومات الشريعة وكلياتها وقواعدها ومقاصدها، وقلما يجعلونها حاكمة وحاسمة في مسألة من المسائل، وإذا التفت بعضهم إلى شيء منها، فغالبا على سبيل التوطئة أو الاستئناس الأدبي. وهذا خلاف نهج العلماء الراسخين والأئمة المتقدمين.

شاهدت مرة برنامجا تلفزيونيا دينيا، خصصت حلقته لمعالجة آفة حوادث السيارات على الطرق، وما ينجم عنها من آثار كارثية، في الأرواح والأبدان والأموال.

وجيء بأحد الفقهاء ليعالج المشكلة من الناحية الإسلامية وليبين أحكام الإسلام في هذه المسألة.

ذهب الفقيه يستحضر ويستظهر كل ما يستطيعه من نصوص شرعية وأقوال فقهية، حول الطريق، وآداب الطريق، وأحكام استعمال الطريق، وأخلاق التأني وعدم العجلة، والرفق والتسامح والإيثار، ووجوب الإحسان إلى الدابة، وعدم إجهادها بالسرعة أو بالحمل الزائد عن طاقتها.

وكان واضحا عندي أن الفقيه سلك مسلكا (كثير العناء قليل الغَناء)، فما ذكره من نصوص وأحكام وآداب يحتاج إلى جهد كبير لربطه بالموضوع وبيان دلالته على المطلوب. وفي النهاية قد يتحقق هذا وقد لا يتحقق، وقد يتحقق على نحو باهت ضعيف الأثر، لأنه يستدل بنصوص وأحكام وردت في مسائل مختلفة اختلافا كبيرا و جوهريا، وبعضها لا يعدو أن يكون آدابا وفضائل مستحبة لا تلزم أحدا ولا تردع أحدا.

وأما المسلك الذي يغْني كل الغَناء، وبدون التواء ولا عناء، فهو مسلك الاستدلال بالكليات.

على الفقيه أولا أن يعرف ويعترف أن هذه المسألة، وآلافا مثلها، جديدة ليس فيها نصوص وأحكام جزئية خاصة بها ومباشرة في موضوعها.

هذا التضييق في تقدير آيات الأحكام، ينبني أولا على التضييق الذي حصل في مفهوم الشريعة والتشريع والأحكام الشرعية، وينبني ثانيا على حصر مفهوم (الأحكام)، في الأحكام الجزئية التطبيقية المباشرة. فمن هنا تغيب الكليات والقواعد والأحكام الكبرى التي يزخر بها القرآن الكريم.

وهنا يتعين الاحتكام إلى كليات الشريعة ومقاصدها العامة. والمسألة المعروضة تتعلق بالأضرار البليغة الفادحة التي تصيب الناس في أرواحهم وأبدانهم وأموالهم. فإذا نظر الفقيه إلى المسألة من باب الكليات، ظهرت له أحكامها ومقتضياتها ومتطلباتها جلية ساطعة قاطعة.

فله أن يستدعي النصوص الكلية المتعلقة بحفظ الأرواح والأبدان والأموال، وهي قوية وغنية.

وله أن يضع المسألة في نطاق الكليات الخمس[1] التي أجمعت الملل والشرائع على تعظيمها وحفظها واعتبارها مصالح عليا للجنس البشري وللحياة البشرية.

وله أن يعالجها وفق قانون المصالح والمفاسد والمنافع والأضرار.

ومن كل هذه المداخل ـ التي يمكن دمج بعضها في بعض ـ يتحدد ما يلزم الحكم به، من الواجبات والمحرمات، ومن التدابير والعقوبات.…

وبهذا يتسع باب النظر والاجتهاد، ويتحرر من التكلف والتعسف ومن التشبيهات الملتوية والأقيسة المضنية.

وهذا ينطبق على كل القضايا والأحوال الجديدة، المختلفة اختلافا جوهريا عن الأحوال والقضايا القديمة، التي جاءت فيها نصوص خاصة، أو اجتهادات فقهية ظرفية. فنقل هذه النصوص والاجتهادات من مناطاتها ومواضعها الحقيقية، وتنزيلُها وإعمالها في مواضع ومناطات وأحوال مختلفة في صفاتها وحقيقتها، إنما هو تعسف واعتداء على تلك النصوص وتلك الاجتهادات، مثلما هو تعسف واعتداء على الناس ومصالحهم.

ويغنينا عن هذا التعسف، اللجوء إلى رحاب الكليات والصيغ الشرعية العامة، التي ما وضعت على الكلية والعموم، إلا لتسعف الناس بهديها وحكمها العام، الذي يستوعب ما لا يحصى ولا ينتهي من الحالات والجزئيات المتجددة. كما يمكننا بنفس الدرجة من الحجية، الاحتكامُ إلى الكليات الاستقرائية المبنية على مجمل الأحكام التفصيلية. وقد نقل شهاب الدين الزنجاني عن الإمام الشافعي أنه يرى جواز التمسك بالمصالح المستندة إلى كليات الشرع، ولو لم تشهد لها أدلة جزئية خاصة، ثم قال: ” واحتج ـ أي الشافعي ـ في ذلك بأن الوقائع الجزئية لا نهاية لها، وكذلك أحكام الوقائع لا حصر لها، والأصول الجزئية التي نقتبس منها المعاني والعلل محصورة متناهية، والمتناهي لا يفي بغير المتناهي، فلابد إذاً من طريق أخرى يُتوصل بها إلى إثبات الأحكام الجزئية، وهي التمسك بالمصالح المستندة إلى أوضاع الشرع ومقاصده على نحو كلي، وإن لم يستند إلى أصل جزئي))[2].


(1) أي حفظ الدين, والنفس, والنسل, والعقل, والمال, وهي المعروفة أيضا باسم ” الضروريات الخمس “.

(2) تخريج الفروع على الأصول, 322.