يعد المحتوى العلمي الركن الثاني من أركان المنهج – بمفهومه التربوي- بل لأهميته في العملية التعليمية أصبح المحتوى علما على المنهج ومرادفا له، فيعبر عن المنهج بالمحتوى، وهذا قصور من جهة إدراك دلالة المنهج في التعليم، لكنه من ناحية أخرى، يدل على مكانة المحتوى كأحد أركان المنهج، ولا يزال المحتوى الجيد محفورا في ذاكرة من درسه، وإن مر على تعلمه عشرات السنوات.
ومن هنا، كان من الواجب العناية بالمحتوى العلمي، وكيفية اختياره، وصياغته بطريقة تحبب الطلاب عليه وتجعلهم يقبلون عليه.
وهناك بعض المنهجيات التي نص عليها السلف والخلف – رحمهم الله- باعتبارها معايير لصناعة وصياغة محتوى علميا جيدا، ومن أهم تلك المنهجيات والمعايير ما يلي:
أولويات التعلم
ذكر الآجري أن هناك أولويات في طلب العلم، فأول ما يبدأ به طلب العلم: تعليم القرآن وضبطه، باختيار حرف من الحروف السبعة، ثم الاشتغال بعلم الحلال والحرام، ثم علم الفرائض، ثم علم السنن النبوية التي تبين معنى الكتاب، ثم علم سنن صحابته رضي الله عنهم، ثم علم الفقه الذي يعرف معاني السنن [1]
وأبان ابن عبد البر المالكي– رحمه الله – رتب طلب العلم، فقال : ” طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة، فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامدا ضل، ومن تعداه مجتهدا زل.
فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه وكل ما يعين على فهمه، فواجب طلبه معه، ولا أقول: إن حفظه كله فرض، ولكني أقول: إن ذلك شرط لازم على من أحب أن يكون عالما فقيها ناصبا نفسه للعلم ليس من باب الفرض “[2].
سلم التعلم
ومن مزايا منهج القدامى في التعلم هو ما قالوه من أن الإنسان لا يتحصل العلم إلا إذا درسه ثلاث مرات، وقد عبروا عنه بدراسة المختصرات، ثم المتوسطات، ثم المطولات، وتقوم هذه الطريقة على شرح متن ما بطريقة مختصرة، فإذا انتقل الدارس إلى الطريقة المتوسطة فإنه يجد فيها ما درس في الطريقة المختصرة وزيادات، ثم ينتقل إلى مرحلة المطولات، فيدرس فيها ما درسه في المختصرات والمتوسطات مع زيادات، فيثبت العلم في ذهن الطالب.
ولا يقصد بذلك العناية بالمختصرات دون الشرح، فإن هذه طريقة غاية في الضرر، إذ غالب ما كتبه العلماء من المختصرات كان من باب التذكرة لقواعد العلم لا للتدريس، ومثال ذلك ما فعله صاحب كتاب” جمع الجوامع” في أصول الفقه، فقد جاء لمن درس علم الأصول واستوعب مسائله تفصيلا، ثم إن أراد أن يتذكر قواعد العلم قرأه، لكن جاء الشراح كالسيوطي في كتابه ” البدر اللامع” و” حاشية البناني”، مما أضر بطريقة دراسة علم أصول الفقه من هذه المختصرات.
إن بداية الطلب في أي علم لابد فيه من الشرح والتوضيح وليس الإغلاق والغموض.
وقد وضع ابن خلدون بابا في أن ( كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم)، وأبان خطر اعتماد الكتب المختصرة لما يحصل عنها من إخلال في الفهم والتحصيل [3].
نموذج في مراعاة سلم التعلم
ومن النماذج الفقهية التي راعى مؤلفها سلم التعلم مؤلفات ابن قدامة المقدسي الفقهية الأربعة، يقول ابن بدرانفي مدخله عنها:
” وذلك أن موفق الدين راعى في مؤلفاته أربع طبقات، فصنف العمدة للمبتدئين ثم ألف المقنع لمن ارتقى عن درجتهم ولم يصل إلى درجة المتوسطين، فلذلك جعله عريا عن الدليل والتعليل، غير أنه يذكر الروايات عن الإمام ليجعل لقارئه مجالا إلى كد ذهنه؛ ليتمرن على التصحيح، ثم صنف للمتوسطين الكافي وذكر فيه كثيرا من الأدلة لتسمو نفس قارئه إلى درجة الاجتهاد في المذهب، حينما يرى الأدلة وترتفع نفسه إلى مناقشتها، ولم يجعلها قضية مسلمة، ثم ألف المغني لمن ارتقى درجة عن المتوسطين، وهناك يطلع قارئه على الروايات وعلى خلاف الأئمة وعلى كثير من أدلتهم وعلى ما لهم وما عليهم من الأخذ والرد، فمن كان فقيه النفس حينئذ مرن نفسه على السمو إلى الاجتهاد المطلق إن كان أهلا لذلك وتوفرت فيه شروطه، وإلا بقي على أخذه بالتقليد. فهذه هي مقاصد ذلك الإمام في مؤلفاته الأربع، وذلك ظاهر من مسالكه لمن تدبرها، بل هي مقاصد أئمتنا الكبار كأبي يعلى وابن عقيل وابن حامد وغيرهم قدس الله أرواحهم” [4]
مراعاة رتب العلم
مما ينبغي مراعاته في وضع المناهج الدراسية مراعاة رتب العلم، وهي ثلاثة- كما أبانها الشاطبي- صلب العلم، وملح العلم، وما ليس بصلبه ولا ملحه، وهي رتب يجب مراعاتها في التصنيف والتدريس، بحيث تقدم الرتبة الأولى على الثانية والثالثة، وتقدم الثانية على الثالثة، بل الثالثة ليست مما ينبغي أن تضيع فيها الأوقات.
الرتبة الأولى: صلب العلم
ويقصد بها ما كان قطعيا، أو راجعا إلى أصل قطعي، وهو كليات الشريعة، وهي التي ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصيل، راسخ الأساس، ثابت الأركان.
وهذا القسم يمتاز بثلاثة أشياء، هي: الأول: العموم والاطراد. الثاني: الثبوت من غير زوال. الثالث: كون العلم حاكما لا محكوما عليه.
الرتبة الثانية: ملح العلم
وهو ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعا إلى قطعي، إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة؛ فهو مخيل، ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول، من غير أن يكون فيه إخلال بأصله، ولا بمعنى غيره، فإذا كان هكذا؛ صح أن يعد في هذا القسم.
أمثلة ملح العلم:
ومن أمثلتها:
- البحث في حكم ما لا يعقل معناه من العبادات.
- حمل أحاديث على كيفيات لا يلزم مثلها، وحملها على أشياء زمن الاجتهاد الواقع.
- طلب كثرة رواية الحديث بما لا يفيد تواتره، بل لكثرة الشيوخ والجهات.
- الاستدلال على المسائل العلمية بالرؤيا بما لا بشارة فيه ولا نذارة.
- الاختلاف في المسائل التي لا ينبي عليها فروع عملية.
- الاستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية.
- الاستدلال على تثبيت المعاني بأعمال المشار إليهم بالصلاح، بناء على مجرد تحسين الظن.
- كلام أرباب الولاية والأحوال، فإنه مما لا يطيقه جمهور الناس وإن كان خاصا بأحوالهم.
- حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده؛ حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر، من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقي.
الرتبة الثالثة: ما ليس بأصل ولا ملح
وهو ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يرجع على أصله أو على غيره بالإبطال…ومثال هذا القسم ما انتحلته الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما ينال من الإمام المعصوم، تقليدا لذلك الإمام، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها[5].
العناية بالضروري من العلوم
إن العناية بالضروري من العلوم يسهم في أداء المنهج دوره في تحقيق الأهداف التربوية والعلمية، ولقد تنبه بعض العلماء الأقدمين إلى ذلك، كابن رشد الحفيد الذي صنف: ” الضروري في أصول الفقه” وهو مختصر المستصفى للغزالي، وله أيضا:” الضروري في النحو”.
فهناك في المحتوى العلمي من المسائل التي تعد حشوا زائدا لا فائدة منه، وإنما تشغب عقل الطلاب وتصعب العلوم الشرعية عليهم، مما جعل طائفة من الناس تنصرف عن علوم الشريعة مع ما لها من مكانة عظمى، ولكن كان من القواعد المهمة في التعليم أنه: ” لا يلقن المتعلم المبتدئ المسائل المعضلة”.
ولو اكتفي في المراحل الأولى على الضروري من العلم، مع العناية بتجويد ما يتحصل؛ لكان أنفع من الكثرة والتطويل والحشو الذي لا يبقى في العقل منه شيء إلا ما ندر.
العناية بالكيف قبل الكم
من الملاحظ على المناهج التعليمية في جميع المراحل الدراسية في التعليم الشرعي، بل حتى في الدراسات الحرة في المساجد عنايتها بالكم، وهذا له تأثير في اختيار المناهج التدريسية التي قد لا تكون مناسبة للمراحل التعليمية، وقد قيل: كثرة الكلام ينسي بعضه بعضا.
يقول الذهبي: ” الإكثار من العلوم المستحبة يوقع فيما لا استحباب فيه، كما أن الإكثار من المباحات موقع في المكروهات، وكذا الإكثار من استعمال المكروه مؤد إلى مفارقة المحرم، فلا تنس خبر النعمان بن بشير في المشتبهات”[6]
[1] – فرض طلب العلم، محمد بن حسين الآجري، ، ص:162-165، دار المعارف، الطبعة الأولى: 1431هـ =2010م
[2] – جامع بيان العلم وفضله (2/ 1129). من الأسف أن يتساهل عدد من المعاصرين في عدم اشتراط حفظ القرآن لمن اشتغل بصنعة الاجتهاد الفقهي.
[3] – راجع: تاريخ ابن خلدون، وعنوانه: ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي (المتوفى: 808هـ)، (1/ 733- 734)، تحقيق:خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1408 هـ – 1988 م
[4] – المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بن عبد الرحيم بن محمد بدران (المتوفى: 1346هـ)، (ص: 433-434)، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة – بيروت الطبعة: الثانية، 1401
[5] – الموافقات (1/ 107-121)
[6] – مسائل في طلب العلم، ص: 37، وهو مذكور في مقدمة تحقيق فرض طلب العلم، محمد بن حسين الآجري، المتوفى: 360هـ، تحقيق: علي بن أحمد الرازحي، ص:24، دار المعارف، الطبعة الأولى: 1431هـ =2010م