صار بإمكانك، وبضغطة زر واحدة، أن تلج بيت أسرة مسلمة دون استئذان. ليس لأن البيت غير محصن، بل لأن حصانته عيب في زمن الاتصال والتسامح، والقرية الكونية الواحدة.
لم يعد للخصوصية معنى إلا في أضيق الحدود؛ أعني نداء الغريزة الذي لا يزال محجوبا عن نظر الخلائق بشكل من الأشكال. أما ما سوى ذلك فكل مسلم ومسلمة أحرار في تحويل حريتهم الشخصية إلى فُرجة، وإتحاف المشاهدين بنقل حركتهم اليومية إلى اليوتيوب، وباقي مواقع التواصل الاجتماعي التي يتعهد بعضها بحماية المعطيات الشخصية!
نعم، صار بإمكانك أن تتابع الزوجة في مطبخها أو غرفة نومها وهي تعيد ترتيب السرير، وتقوم بأعمال النظافة اليومية.
أو تتابع الفتاة وهي تتيح لفضولك أن يقتحم كل ركن في البيت، ويرصد كل شاردة وواردة من سلوك العائلة المحترمة.
بل جاز لك أن ترصد حتى حركات الرضيع وبكاءه، وتتعرف على كلب البيت اللطيف، والحرص اليومي على تنظيف برازه العالق في السجاد.
هذا الجهد المحتدم لإسقاط رمزية العلاقة الأسرية، وهويتها وقيمها تتم مكافأته بعائد شهري، يتناسب مع حجم المشاهدة اليومية، ويصبح حديث المواقع الإلكترونية. وبالتالي يؤسس لشهرة ونجومية لا تعتمد على مواهب خاصة، باستثناء الجرأة في تحطيم الصورة، وهز القيم المعنوية التي تشكل لحمة الأسرة المسلمة. سواء من حيث وضعها الاعتباري في الإسلام، أو حتى من جهة العوائد والتقاليد التي دأبت على رسم الحدود ضمن تعبير شائع مفاده: “البيوت أسرار”.
في الجهة المقابلة، تصطف عشرات الآيات والأحاديث، والمواقف النبوية التي أرست بوضوح قواعد التعامل الأسري، وحذرت من مغبة التفريط في المرجعيات التي تضمن تماسكه.
فلو عدنا إلى القرآن الكريم سنجد من ضمن الفضائل التي يربي الإنسانَ عليها: العفة والاحتشام، كما في قوله تعالى:(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون)- النور: آية 30.
والاستئذان، كما في قوله عز وجل:(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون)- النور: آية 27.
أما الحياة المحمدية فلم تخل من توجيهات ومواقف تعزز الأداء الأسري، وتحميه من عوامل الهدم والاضطراب. فكان موقفه ﷺ من التلصص واستراق النظر حازما، لذا حين اطلع رجل من جُحر في إحدى حجرات زوجاته، وكان مع النبي ﷺ مِدرى يُسرح بها رأسه، قال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر.
ونهى عن الدخول على النساء، فلما سأله رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال : الحمو الموت. وبذلك رسم حدود التفاعل الأسري بما يضمن نوعا من الاحتشام والعفة، ويسد منافذ الريبة والغيرة القاتلة.
بالعودة إلى الجهة الأولى يكتسي التلصص ضرورة رقمية، فتشرع الأسر أبوابها باسم التحرر من قيم الانغلاق، والذوبان في محيط الإنسانية العميق، حيث الهاتف الذكي ومشتقاته يعيدان تشكيل العلاقة الأسرية من جديد، تحت شعار ” غرباء في بيت واحد، لكن منفتحون على العالم”. وبعد أن كان الحديث في السابق يدور حول تسلط الآباء في مواجهة سلوك الأبناء، بتنا اليوم نعاين شكوى مزدوجة من البرود الذي يعمّ البيوت، وصعوبة التئام أفراد الأسرة حول مائدة واحدة، دون أن يكون الهاتف سيد الموقف.
بالإضافة إلى مخاطره الصحية، وما يسببه الاستخدام المفرط من ضغط نفسي واضطراب في المهارات الاجتماعية، فإن الهاتف الذكي يسهم أيضا في فقدان الخصوصية، وإضعاف الروابط الأسرية. صحيح أن هنالك عوامل اقتصادية واجتماعية أفضت إلى تصدعها، غير أن التواصل بين أفرادها لم يشهد تراجعا كالذي نعاينه اليوم، حيث صارت الشبكات الاجتماعية قوة جذب، يلجأ إليها الأبناء للحوار وطلب النصح وعرض المواهب والاختيارات. بالمقابل تراجعت مكانة الآباء وأدوارهم في التوجيه وتشكيل القيم، وبرز ما يشبه تطبيعا أو استسلاما أمام سلوكيات تستهين بالحياة الأسرية.
كل مولود يولد على الفطرة، يقول النبي ﷺ، ثم يأتي دور الوالدين لتغذية هذه الفطرة بأسباب بقائها أو انحرافها. بمعنى أن الآباء هم دعامة المنظومة الأسرية، وكل تفريط في أدوارهما يُولد الضعف والهشاشة، ويسمح بالاختراق. إن التأكيد على هذه النقطة مجددا يُسقط التبرير المتعلق بتغير الزمان، وضرورة التكيف مع متطلبات الحياة المعاصرة. فالقيم لا يمكن التلاعب بها أو تهميشها، لأنها شرط لازم للتفاعل الاجتماعي السليم. وكل تهاون أو تقصير من لدن الآباء يؤسس لانفلات خطير نتابع اليوم بعض تجلياته، ممثلة في ارتفاع نسب الطلاق، والتفكك الأسري، والخيانة، والقتل المتبادل بين الأزواج وغيرها..
تحتاج الأسرة المسلمة اليوم إلى استعادة ثقافة الاستئذان، وخلق العفة وتقدير الخصوصية. فكاميرا الهاتف لا تختلف في شيء عن عين الرجل التي أوشك النبي ﷺ على طعنها حين انتهكت خصوصية بيته. بل هي أسوأ في الحقيقة، لأنها تنقل أسرار البيت وداخلَه إلى الخارج الذي لا يرحم!
إن حالة الإشباع النفسي الزائف، والبحث عن التميز المصطنع، هما عاملان يُغذيان إقبال الأبناء على تحطيم العش الأسري وتبديد حرمته. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى خطاب يعزز ثقافة الإنجاز الفعلي، والتميز القائم على الجهد والمثابرة.