من خلال كتابيه “أخلاق حملة القرآن” و”أخلاق العلماء”، يبدو الفقيه أبو بكر الآجري رحمه الله منشغلا بما يمكن أن نسميه ترسيم حدود بين أهل العلم وعامة الناس. وهو ترسيم يحكمه الوازع الديني ممزوجا بحس أخلاقي عال، وبمشاهدات تُنبئ عنها عظاته وتوجيهاته المفعمة بالإشفاق والحنو على ورثة الأنبياء.
يصفه بعض من نقلوا شيئا من أخباره، كالخطيب البغدادي وابن خلكان وغيرهما، بالثقة و الدين والخلق، وأنه كان صاحب سنة يكره التعصب المذهبي. استكمل مشواره التعليمي ببغداد، وحدّث بها زمنا، ثم انتقل إلى مكة حاجا فأعجبته، فدعا الله أن يرزقه الإقامة بها سنة، غير أنه سمع هاتفا يقول: بل ثلاثين سنة، فكان كذلك. وقضى مدة إقامته بها مُحدثا وداعيا إلى الورع والزهد، واتباع طريق السلف إلى أن وافته المنية سنة ستين وثلاثمئة للهجرة.
أما كتابه (أخلاق العلماء) فيرى الحافظ ابن رجب أنه من أجلّ ما صُنف في أخلاق العلماء وآدابهم. وكل من تأمله علم طريقة السلف وما حدث بعدها من مخالفات. والكتاب بحق منظومة أخلاق وقيم، تؤطر حركة العالِم داخل المجتمع، وتُنبه إلى الآفات التي تشوب أداءه فتُجرده من رسالته السامية، ودوره في تهذيب القلوب، وإصلاح الفهم والسلوك؛ كل ذلك بأسلوب مشرق وهادئ، ومفعم بحس المسؤولية التي ألقتها نصوص الكتاب والسنة على عاتق العلماء.
تضمنت خطة الكتاب كما وضعها الآجري إبراز مكانة العالِم في الإسلام، ومظاهر التشريف التي خصته بها الآيات والأحاديث النبوية. إلا أن الأمر مشروط بالتزام آداب وأخلاق محددة، سواء في طلبه للعلم أو عند نشره وتبليغه. ويظل الهاجس الذي يحكم الآجري في توجيهاته العديدة هو “النية” التي تقف خلف هذا الطلب، فيؤكد غير ما مرة في ثنايا الكتاب على ابتغاء ثواب الله، والزهد في متاع الدنيا، والحذر من التقرب للأغنياء أو مجالسة الأمراء.
عند عرضه للسنن والآثار الواردة في فضل العلماء، يزاوج الآجري بين ثمرة حضور العالِم في المجتمع وألوان الانكسارات التي تعقب غيابه. فالذين أوتوا العلم هم أشد الناس خشية لله، وأعلى درجة منهم. هم النجوم التي يُهتدى بها كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه، وكل شيء يستغفر لهم حتى الحيتان في البحر. أما غيابهم وفقدهم فهو نجم طُمس وكسر لا يُجبر، ولا خير في الناس بعدهم. وينقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أثرا يؤكد فداحة الخطب حين يموت العالِم، فيقول محدثا جلساءه: “أتدرون كيف ينقص الإسلام؟ قالوا: كيف ؟ قال كما ينقص الدابة سمنها، وكما ينقص الثوب عن طول اللبس، وكما ينقص الدرهم عن طول الخبت، وقد يكون في القبيلة عالمان فيموت أحدهما فيذهب نصف علمهم، ويموت الآخر فيذهب علمهم كله.”
في الباب الثاني من الكتاب يشرع الآجري في ترسيم الحدود بين صورة العالِم كما تناولتها نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف، وبين تجلياتها في الواقع. فاهتم بداية بإزالة اللبس الذي قد ينشأ لدى طالب العلم حين يستعرض تلك النصوص، فيتوهم أن الفضل عام يشمل كل من تعلم علما وحفظه، بغض النظر عن الوشيجة الدينية والأخلاقية التي تحكم هذا المسار، فيُنبه للأمر قائلا: ” فإن قال قائل من علم العلم وحفظه وناظر فيه يدخل في هذا الفضل الذي ذكرت. قيل له أرجو أن لا يخلي الله كل مسلم طلب الخير والعلم من خيره الذي وعد به العلماء، ولكن قد ذُكرت لهم أوصاف وأخلاق.”
وحين نلقي نظرة على مجمل الأوصاف التي حددها الآجري لطلبة العلم، نلمح في ثناياها استياء مما آل إليه التحصيل العلمي في زمنه، ومحاولة دؤوبة لاستعادة الزمام من خلال تقييد سلوك الطالب بالورع، والابتعاد عن غمرات الدنيا، خاصة التقرب للأغنياء ومجالسة الأمراء اللذين عدّهما بلاء يجب الاستعداد له. لذا جاءت الأوصاف مرتبة على نحو ينأى بالعالِم عن الواقع المحتدم بالأهواء والمطامع.
بما أن الأعمال بالنيات فأول ما يبدأ به طالب العلم هو تصحيح النية والتأكد من سلامة القصد. حيث يكون مراده من الطلب أن ينفي الجهل عن نفسه، ويعبد الله كما أمره وليس كما اتباعا لهواه. حتى إذا صحت النية لزم أن يكون السلوك مرآتها، فيقصد مجالس العلم وعليه سيما الوقار والحلم. ويحسُن أن يكون به ميل إلى الوحدة، ليشغل وقته بالذكر والتلاوة والتفكر. أما إذا “ابتلي” بالأصحاب فإن الآجري يضعه أمام ثلاثة نماذج تتناسب مع الإطار الذي ارتضاه: صاحب أعلم منه فيتعلم منه، وآخر مثله فيذاكره العلم لئلا ينسى، وثالث أدنى مرتبة فيُعلمه ابتغاء وجه الله.
بعد مرحلة الطلب وتحصيل العلم الكثير، ينشغل الآجري بالأخلاق التي تحفظ مسافة أمان بين العالم وسائر الناس، وتحقق الهيبة الممزوجة بالإشفاق على الخلق. فيؤكد مرة أخرى على خلق التواضع، والصبر، والمداراة. ويُنبه إلى مسائل الشغب أو المحدثات في البدع ليجتنبها العالم، ولا يُناظر إلا على جهة الاضطرار لا الاختيار، لما في المناظرة من احتكاك بأهل الزيغ والأهواء.
إن هذا الحرص على تخريج عالم على “الحقيقة”، والتماس الفقيه الذي تُطابق خطاه طريق السلف، يؤشر على اهتزاز الصورة في المجتمع الإسلامي آنذاك، وبروز ظواهر أقلقت الآجري، وحملته على سن قواعد موجهة للتحصيل العلمي، وفي مقدمتها التكسب بالعلم، واتخاذه وسيلة لإحراز المناصب التي ازدادت الحاجة إليها، خاصة القضاء والخطابة. وتسعفنا فقرة لأبي عثمان الجاحظ لكشف أبعاد الصورة التي لا شك أنها كانت مثار استياء. يقول في كتابه (الحيوان):” وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن، ويجالس الفقهاء خمسين عاما، وهو لا يُعد فقيها، ولا يُجعل قاضيا؛ فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين، حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال؛ وبالحري ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير، حتى يصير حاكما على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان.
إمعانا في الزجر عن مخالفة طريق السلف، يُفرد الآجري كتابا خاصا بالعالم الجاهل المفتتن بعلمه. فيبدأ بالبسملة إيحاء بالفصل بين صورتين للعالِم، ثم يسرد عددا من الأحاديث والأخبار التي تذم علماء الشهرة والرياء، وتعتمد الترهيب بذكر أحوالهم في آخر الزمان، حيث يبلغ الأمر بالعالِم أن يصير في قومه أنتنَ من جيفة الحمار.
أما أهم أوصاف العالم الجاهل التي ساقها الآجري فإنها تُظهر حرصه على التنفير من التكسب بالعلم، أو التماسّ مع السلطة وأرباب المال، وبذلك يُكرس موقف الانسحاب الذي تبناه بعض أهل العلم نتيجة التحولات العميقة التي شهدها العالم الإسلامي بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
من أوصاف علماء الظاهر كما يسميهم الآجري: الفخر والرياء، والجدل والمراء، وطلب العلم الذي يوافق الهوى، لأن مراده أن يُعرف بأنه من طلاب العلم.
ومنها أنه يسرع للعلم الذي يشرف به عند الناس، بينما يثقل عليه كل علم تضمّن واجبه نحو خالقه.
ومنها أن يحزن على علم فاته، بدل أن يحزن على العلم الذي معه ولم يعمل به. ويُظهر فرَحه إن أخطأ عالِم، وسرورَه بموت أهل العلم.
إنه نموذج للزيف والتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بالثوب، وحين يصادف بيئة تحتضنه فلا شك أنه سيصبح عاملا من عوامل هدم القيم والاستقرار، وسببا للفرقة لا للوحدة. لذا يُعلق الآجري على تلك الأخبار قائلا: فإذا كان يُخاف على العلماء في ذلك الزمان أن تفتنهم الدنيا، فما ظنك به في زماننا هذا؟ ويحق لنا أن نعلق على الآجري بالقول: إن كانت تلك مخاوفك على العلماء وطلبتهم في ذلك الزمان، فما ظنك به في زماننا هذا !