إن بوادر العودة إلى الاجتهاد والتجديد في  الفقه الإسلامي وإحياء روح البحث وحرية استنباط واستنطاق النصوص الشرعية وتفسيرها ليست وليدة العصر، ولكن تمتد هذه المحاولات إلى عصور سابقة، غير أنها قد تظهر بطابع فردي لا يتبناها أي جهة رسمية، كما نجد نماذج من جهود كل من الغزالي، وابن تيمية وابن القيم وابن خلدون وغيرهم من العلماء الذين يشهد لهم بالعلم والانبراء للإفتاء والاجتهاد.

وهذا يدل بشكل واضح أن دعوة إغلاق باب الاجتهاد والاستسلام للتقليد أمر مرفوض في العصور السابقة، بل الصحيح أن “التقليد الذي كان طابع التشريع في عصر ما بعد المذاهب لم يستسلم له المسلمون، وعرف كل عصر من العصور الإسلامية الحالكة رجالا ثاروا على التقليد ودقوا باب الاجتهاد”. [أحمد شلبي، تاريخ التشريع الإسلامي: 207].

كما نرى ابن حزم الظاهري من علماء الأندلس في عز الدولة الإسلامية وانتشار مذهب المالكية ومنع الاجتهاد ومعاقبة الناكث الذي يخرج عن هذا المرسوم، ينبري ابن حزم فيقول: ” هذا القول في غاية الفساد، وكيد للدين لا خفاء به، وضلال مغلق، وكذب على الله تعالى، إذ نسبوا ذلك إليه، أو دين جديد أتونا به من عند أنفسهم ليس من دين محمد صلى الله عليه وسلم في شيء” . [ابن حزم، الإحكام في أصول الاحكام: 4/ 225].

وهذا العز بن عبد السلام يبدي العجب من بعض حالات الفقهاء المقلدين، حيث يقدم بعضهم مذهب إمامه – على ضعف فيه – على الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة والقياس، يقول معاتبا على هذه الحالة: “البحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه .. فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر”. [قواعد الأحكام: 2/ 159].

ويؤكد هذا المعنى الإمام الشاطبي حين قال: “ولقد زل بسبب الإعراض عن أصل الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل… ثم يقول: الحاصل مما تقدم أن هذا تحكيم الرجال على الحق، والغلو في محبة المذهب، وعين الإنصاف أن الجميع أئمة فضلاء، فمن كان متبعا لمذهب مجتهد لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا يضره مخالفة غير إمامه لإمامه، لأن الجميع سالك على الطريق المكلف به، فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار ما أجمع الناس على ترك إنكاره”. [الاعتصام: 3/ 314 – 320].

ولم تأت هذه الدعوات الفردية بالتشهي وحب الظهور والمخالفة بغية السيادة، وإنما اقتضاها واقع الامة في هذه العصور، حيث لا تقبل مصلحة الأمة في أي بقع الجمود والتقليد لحكم قابل للتبدل والتغير والاستجابة لحاجات العصر، وهذه النماذج من العلماء لم يجدوا أمامهم بدا إلا التعاطي مع المستجدات وتقويم أقوال المذاهب وأصولهم للتوصل إلى ما يناسب عصرهم وحاجة الناس فيه.

محاولات التجديد بطابع جماعي

من المحتمل أن التجديد في الفقه الإسلامي أخذ الطابع الفردي في العصور السابقة على غرار طريقة نشأة الفقه الإسلامي والمذاهب الفقهية في الأصل، وطبيعة المجتمعات الإسلامية آنذاك التي كانت تتميز بشيء من الفردانية،  لا كما نجد اليوم في القرن الواحد والعشرين، حيث ظهرت العولمة والاتصال الواسع بين رقع العالم الإنساني، وباتت المنظمات والمؤسسات الدولية والإقليمية وغيرها هي التي تنظم المجتمع وتدافع عن حقوق الإنسانية وتستجيب للتحديات.

ولعل هذا أحد الأسباب التي جعلت المحاولات التي سجلها التاريخ في تجديد الفقه الإسلامي، وفي نقض دعوى الإجماع على ضرورة التقليد، تأخذ السمة الفردية، فكانت هذه الجهود إسهامات ضعيفة غير مؤثرة أمام موجة التقليد العارمة، لذلك قوبلت أغلب هذه المحاولات بالرفض والنكاية إلى حد النفي أحيانا كما في حال ابن حزم الأندلسي.

من أقدم المحاولات الجماعية في تجديد الفقه الإسلامي ما سطره العلامة المغربي محمد بن الحسن الحجوي الفاسي (توفي 1376هـ) عن بارقة إحياء الاجتهاد في عصر الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس في القرن السادس الهجري، واعتبر هذه الحركة أشبة بحركة الموت، “وذلك أن عبد المؤمن بن علي لما غلب المغرب ووجد العلماء انهمكوا في الفروع راضين خطة التقليد الذي يقضي على الفقه، فكر فكرة في إلزام العلماء الاجتهاد، وترك التقليد فقيل: إنه أبرزها إلى حيز العمل، فحرق كتب الفروع كلها، وأمر بوضع كتب أحاديث الأحكام”. [الفكر السامي: 2/197].

على خلاف بين المؤرخين عن حقيقة الأمر الصادر من عبد المؤمن بن علي، وما ألزم الناس به، هل كان يتوق للتجديد والاجتهاد المطلق، أم حملهم على مذهب الظاهرية، وهو العمل بظاهر القرآن والسنة وترك الفروع الفقهية؟

عقب العلامة الحجوي على هذا الوضع والمحاولة التاريخية في تجديد الفقه في عهد الموحدين، والخلاف الذي طرأ بين المؤرخين حول هدف الموحدين، هل هو النكاية بالمذاهب أو التجديد، يقول الحجوي: “قد أراد الموحدون في أفريقيا والأندلس الرجوع إلى الأصل الأول، لكنهم لم ينجحوا، ولم يدم عملهم للأسباب التي بيناها لكم ولله عاقبة الأمور” [الفكر السامي: 2/204].

وفي العصر الحديث سعى المسلمون في صور الحركات والجهود الجماعية والفردية في العالم الإسلامي لإحياء الاجتهاد، وتبناها بعض الحكومات في جزئيات قوانينها العامة الناظمة للحقوق والشؤون في بلادهم؛ تعبيرا عن السخط والاستياء من استبدال القوانين الوضعية بالتشريع الإسلامي، ومما يذكر في هذا المضمار ما يأتي:

1- مجلة الأحكام العدلية: أطلقت الدولة العثمانية مشروع تقنين الاحكام الشرعية حين شعرت بخطر القوانين الوضعية الذي يهددهم في عرضه الجذاب، وتنسيقه المحكم، فشكلت لجنة من فقهائها البارزين، وعهدت إليهم بتنظيم أحكام العلاقات المدنية في الفقه الإسلامي، على المذهب الحنفي، واستمر عمل هذه اللجنة سبع سنوات؛ حيث صدر هذا التنظيم باسم “المجلة” سنة 1293هـ وسميت بذلك: لأنها كانت تصدر أبوابا متتابعة، فأشبهت في صدورها المجلات. [القطان، تاريخ التشريع الإسلامي: 404].

2- مجمع البحوث الإسلامية في مصر: تولد من جهود انطلق في مصر في مطلع العشرينات حيث نودي برفض التقيد بمذهب الحنفية في المحاكم الشرعية، وأثمرت هذه الحركة بالقانون رقم 25 لسنة 1920 الذي اشتمل على بعض أحكام في الأحوال الشخصية على ضوء المذاهب الفقهية الأربعة، وهذه الحركة مهدت لما ظهر بعد ذلك بانشاء مجمع البحوث الإسلامية في الستينات، عني بدراسة كثير من الموضوعات الجديدة التي لم يطرقها البحث من قبل. [شلبي: 208].

3- إنشاء مجمع فقهي: حيث دعا كثير من العلماء إلى إنشاء مجمع فقهي على نسق المجامع العلمية الأخرى، تحقيقا للهدف العام الذي يشعر المسلمون بالحاجة إليه في تجديد الفقه الإسلامي وتطوره، وحتى يكون هذا المجمع وسيلة للاستنارة برأي الجماعة في الاستنباط يغني عن الاجتهاد الفردي، وفي مؤتمر رابطة العالم الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة سنة 1384هـ قدم الشيخ “مصطفى الزرقا. [القطان: 405].