كيف كان وضوء الرسول : كان هدي النبي في العبادات خير الهدي وأكمله وأعدله، ولقد أمر الله الأمة باتباع النبي في سننه وهديه وتصرفاته في العبادات بجميع أنواعها، فقال الله تعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

وفي الآية مبالغة عظيمة في مقام الامتثال بهدي النبي والتزام  الشرائع التي جاء بها، حيث تفرع من ذلك ضمان الهداية، والعصمة من طريق الضلال، فكان من آكد الأمور إبراز الهدي النبوي في الوضوء الذي يعتبر شرط صحة للصلاة، وبدونه فإن الصلاة لا تصح وبالتالي لا تقبل، ثم شدد ورغب – – على فضل اتباع هديه في الوضوء، وهذا الترغيب ينم على حرصه على هذه الأمة، فقال: “مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ [متفق عليه من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه]. 

أشار النووي رحمه الله إلى مجال الترغيب في هذا الحديث من خلال كلمة (نحو)، فقال: “إنما قال نحو وضوئي ولم يقل مثل لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره”. وهنا يفهم أن المسلم يكتسب هذا الأجر المذكور عند الاستشعار بمتابعة السنة النبوية مع حضور النية في الوضوء.

كيف أتوضأ مثل النبي ؟

أما كيفية وضوء الرسول فقد جاءت فيها نصوص كثيرة، ووقف معها الفقهاء في بيان التفاصيل المتعلقة بهذا الهدي النبوي في الوضوء، ومما يمكن أن يستخلص في هذا المقام من الفوائد العلمية والتربوية المتعلقة بوضوء النبي ما يأتي:

أولا– المواظبة على الوضوء لكل صلاة وترك الإسراف في الماء :  فكان يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه، وربما صلى الصلوات بوضوء واحد. وكان يتوضأ بالمد تارة، وبثلثيه تارة، وبأزيد منه تارة، وكان من أيسر الناس صبا لماء الوضوء، وكان يحذر أمته من الإسراف فيه”. [زاد المعاد 1/184].

أما تخليل اللحية الكثيفة في عند غسل الوجه، وذلك بإدخال الماء إلى أصولها فلم يثبت الحديث الصحيح فيه، وورد الترخيص على تركه عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم.

 ونحوه تخليل الأصابع في الوضوء وهو إيصال الماء بين أصابع اليدين والرجلين عند الغسل، فكان يفعله أحيانا لكن لا يواظب عليه.  [زاد المعاد 1/191].

ثانيا – تكرار غسل أعضاء الوضوء الواجبة: وكان النبي يتوضأ فيغسل أعضاء الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، وفي بعض الأعضاء مرتين وبعضها ثلاثا، حيث يفرق بينها في العدد، وبناء على هذه السنة يكره العلماء الزيادة على الغسل أكثر من ثلاث مرات، لا سيما إذا فهمنا حديث عمرو بن شعيب وفيه: “.. أنه غسل الأعضاء ثلاثا ثلاثا.. ثم قال: فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء”، لما يترتب على الزيادة من الإسراف ومخالفة السنة النبوية الثابتة.

ثالثا– الوصل بين المضمضة والاستنشاق: فقد ثبت أنه كان يتمضمض ويستنشق، تارة بغرفة، وتارة بغرفتين، وتارة بثلاث. وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق، فيأخذ نصف الغرفة لفمه ونصفها لأنفه، ولا يمكن في الغرفة إلا هذا، وأما الغرفتان والثلاث فيمكن فيهما الفصل والوصل، إلا أن هديه كان الوصل بينهما، كما في ” الصحيحين ” من حديث عبد الله بن زيد «أن رسول الله (تمضمض واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثا». [زاد المعاد 1/185].

رابعا – مسح الرأس كله مرة واحدة: جميع الأحاديث التي وردت في وضوء الرسول ذكرت أنه كان يمسح رأسه كله، وقد يقبل بيديه ويدبر أحيانا، قال ابن القيم: عليه يحمل حديث من قال: مسح برأسه مرتين.

“والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه، بل كان إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس، هكذا جاء عنه صريحا، ولم يصح عنه خلافه البتة”. [زاد المعاد 1/185].

بل يكره تكرار مسح الرأس لأنه حين يتكرر المسح فإنه يكون بمثابة الغسل، والمطلوب هو المسح وليس الغسل.

وكان من سننه أنه يمسح رأسه كله ويستوعبه، وتارة كان يمسح ناصيته وعلى العمامة معا، وتارة كان يمسح على العمامة فقط دون المسح على الناصية.

المسلم يتوضأ

خامسا– مسح الرأس مع الأذنين: وتقرر من سننه في الوضوء أنه كان يمسح الرأس مع الأذنين بالبلة الواحدة، دون أن يأخذ لهما ماء جديدا، وكان يمسح ظاهر الأذنين وباطنهما. جاء فالحديث أن النبي “مسح في وضوئه برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل إصبعيه في صماخ أذنيه”. [أبو داود في السنن وحسنه ابن حجر].  

قال ابن القيم: ولم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدا، وإنما صح ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه.

سادسا  – أذكار وأدعية الوضوء: وكان الصحيح في السنة أنه كان يبدأ الوضوء بالتسمية، ويقول في نهايته: “أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين”.

وجاء في حديث آخر أنه قال في آخر الوضوء: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك). [النسائي عن أبي سعيد مرفوعا، وصوب كونه موقوفا]

وليس من سنته الأذكار والأدعية التي تقال عند كل عضو يغسل أو يمسح، قال النووي: دعاء الأعضاء لا أصل له.

أما ابن القيم فقد جزم بأنه: “لم يحفظ عنه أن كان يقول على وضوئه شيئا غير التسمية، وكل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق لم يقل رسول الله شيئا منه، ولا علمه لأمته”.

سابعا – غسل الرجلين: فقد كان عليه الصلاة والسلام يغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ويفعل الامر ذاته مع اليسرى، يغسلهما ولا يمسحهما مجردتين بدون خف أو جبيرة، قال الكاساني: قد ثبت بالتواتر أن النبي غسل رجليه في الوضوء، لا يجحده مسلم.

ثامنا – المسح على الخفين والجوربين: فكان عليه الصلاة والسلام يمسح عل الخفين والجوربين، مقيما أو مسافرا آخذا بالرخصة، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تجتنب نواهيه. ووقت مدة المسح للمقيم في البلد يوما وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن في عدة أحاديث صحيحة، وكان يمسح ظاهر الخفين، ولم يصح عنه مسح أسفلهما.

قال ابن القيم: كان الرسول يغسل رجليه إذا لم يكونا في خفين ولا جوربين، ويمسح عليهما إذا كانا في الخفين أو الجوربين.

وكان من سنته في المسح أنه لا يتكلف ضد الحالة التي كانت عليها قدماه عند الوضوء، فإذا كانتا في الخف مسح عليهما، وإن كانتا مكشوفتين غسلهما .

تاسعا – تنشيف الماء بعد الوضوء: فقد كان من هديه أنه لم يكن يعتاد تنشيف أعضاء الوضوء عند الفراغ منه، وقد ناولته ميمونة رضي الله عنها إحدى زوجاته خرقة بعد غسله من الجنابة فلم يردها فجعل ينفض بيده”. [صحيح البخاري: 274].