حازت قضية انهيار الحضارات وانتحارها، اهتمام المؤرخين وشغلت بال الفلاسفة وأرَّقت المفكرين؛ واجتهدت النظريات الأنثروبولوجية والاجتماعية، ذات الخلفيات الدينية والهويات الثقافية والتوجهات الحضارية المتنوعة، في تحليلها عبر العصور.

وتبارى الجميع في استعراض الأسباب وتحليل العوامل التي أدّت إلى موات الأمم وفسَّرت ظاهرة اندثار وانهيار الحضارات من جوانب شتى وزوايا مختلفة، عبر المسيرة التاريخية للإنسان، وهي حضارات كان لها تأثيراتها الكبرى على مجرى التاريخ الإنساني القديم، وتراوحت هذه الحضارات ما بين المحلية والإقليمية ذات التأثيرات المحدودة في تاريخ البشرية وما بين الحضارات الكونية الكبرى، مثل: المصرية الفرعونية أو البيزنطية أو الصينية التي كانت ملء السمع والبصر.

ولم يكن هذا الاهتمام والانشغال وتلك السيرورة الفكرية، محض محاولة للفهم والتحليل والاستيعاب بقدر ما كان إجابةً معرفية شاملة عن أسئلة التاريخ المؤرِّقة: كيف تحيا الأمم والشعوب؟ وما آليات نهضتها وتأثيراتها؟ وكيف تفهُّم علة انهيارها وأسباب انتحارها، وتأمُّل العِبَر والعظات؛ لتجنُّب هذه النهايات: حياةً سوية؛ ومرضًا وعرضًا ووصفةً وعلاجًا.

وأتصور أن هذه القضية ذات الأهمية الكبرى؛ لم تتم دراستها جيدًا ولم تأخذ مساحتها الكافية في العالم العربي، الذي يعيش اليوم على هامش التاريخ في ضوء تمظهرات التدهور الحضاري التي يلمسها كل راصد في هذا المنعطف التاريخي الذي يغشاه حاليًا!

وإذا كان من الصعوبة بمكان، أن تحصر تجليات الجدل وأبعاد التحليل، وما طرحه المؤرخون وقدَّمه المفكرون وأجاب عنه العلماء، حول هذه الإشكالية الكبرى في هذه المساحة؛ فنحاول تضمين المسألة هنا في إشارات عامة ومختصرة، تعطي صورة عامة أكثر توافقية ومنطقية لهذه القضية وأبرز التوجهات الكبرى التي طُرحَت في هذا الشأن.

وفيما أجمع الكثيرون على أن أهم أسباب موت تلك الحضارات؛ يعود إلى عوامل داخلية، سيما انهيار منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية والقيمية وفشلها في التعاطي مع التحديات، والاستجابة المُلحة لمقتضياتها؛ ما يقود هذه الحضارات إلى التكلس والجمود والعجز وفقد القدرة الذاتية على الإبداع والابتكار والتحديث والتطوير؛ وصولاً إلى مرحلة العجز، ومن ثَمَّ مواجهة المصير المحتوم.

كتب مؤرخون مختلفون عن صعود وهبوط الحضارات وسقوط الدول والأمم؛ فقد تناول مؤسس علم الاجتماع المؤرخ العلاَّمة ابن خلدون (1332- 1406م)، هذه القضية بحثًا وقياسًا وتحليلاً لأسباب وعوامل وقوة وسقوط الحضارات في كتابه: (المقدمة)، وتوكيده على أنه «إذا تأذَّن اللهُ بانقراض المُلك من أمَّة؛ حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها.

وهذا ما حدث في الأندلس وأدَّى فيما أدى إلى ضياعه»، بما يشير إلى أن مكامن الانهيار ذاتية ومن الداخل بامتياز، وليست بسبب معارك خارجية أو حروب خاسرة. كما وصف ابن خلدون كذلك أسبابًا محورية للانهيار التدريجي للأمم؛ يقول: «إن غاية العُمران، هي الحضارة، والترف، وإنه إذا بلغ غايته؛ انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم، كالأعمار الطبيعية للحيوانات، بل نقول: إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة، والترف، هي أصلُ الفساد»!

كان جوهر نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889-1975م)، المعروفة بـ(التحدي والاستجابة) التي تضمَّنتها موسوعته:(دراسة للتاريخ) وتأثَّر فيها كثيرًا بالعبقري ابن خلدون، مؤكدًا فيها أن الحضارات إنما تصعد وتنهض؛ استجابة لتحديات محدَّدة سواء كانت هذه التحديات مادية أم اجتماعية. وعندما تعجز هذه الحضارة عن الاستجابة للتحديات التي تواجهها؛ فإنها تدخل في مرحلة الانهيار، مشددًا على أن الأمم والحضارات تموت أساسًا؛ بسبب عوامل داخلية.

وفي القلب من هذه العوامل؛ انهيار منظومة قيمها الأخلاقية. وأوجز هذه القضية في عبارة بليغة: “إن الحضارات لا تموت قتلاً؛ وإنما انتحارًا”! وفي دراسته للتاريخ؛ تشكِّل العوامل الدينية والقيمية والأخلاقية عصب استمرار الحضارات ويقف الابتعاد عن قيمهما إلى تفسخ المجتمع وانهيار حضارته.

فيما وضع المؤرخ الأمريكي ويليام ديورانت (1991-1885م)، انهيار منظومة القيم الدينية والأخلاقية في طليعة أسباب سقوط الحضارات، فيقول: «الحضارات العظيمة لا تنهزم إلا عندما تدمِّر نفسها من داخلها. والأسباب الرئيسة لانهيار روما مثلاً والحضارة الرومانية؛ تكمن في شعبها وأخلاقياته..». وهكذا حدث إجماع وتوافق متطابقين بين المؤرخين: العربي والبريطاني مع الأمريكي في إشكالية سقوط، وانتحارها، وهو: انهيار المنظومة القيمية والأخلاقية.

  وسيظل التاريخ شاهدًا مهمًا على نهوض الحضارات وانتحارها  في دورات متتالية تشبه دورة حياة الإنسان نفسه، بعدما قدَّم لنا شهادات كثيرة معاصرة؛ تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن أخطر ما يهدِّد مسيرة البشر؛ هو اختلال الأداء الحضاري، واهتزاز العلاقة بين الإبداع والأداء القيمي السلوكي.

ولعل أبرز ذلك ما خطَّه ميخائيل غورباتشوف (1931-1931م)، رئيس ما كان يسمى بـ (الاتحاد السوفييتي) في كتابه: بيريسترويكا (إعادة البناء): “رغم الانتصارات العلمية والتقنية؛ نجد نقصًا واضحًا في الكفاية في توظيف المنجزات العلمية” ويستطرد، قائلاً: “لقد بدأ التدهور التدريجي في قيم شعبنا الأيديولوجية والمعنوية، وبدأ الفساد يسري في الأخلاقيات العامة” مواصلاً الحديث في هذا الشأن: “مهمتنا اليوم أن نرفع روح الفرد، ونحترم عامله الداخلي، ونعطيه قوة معنوية؛ ليكون مستقيمًا، حي الضمير“!

إن منظومة القيم الدينية السامية والإنسانية الراقية والأخلاقية الرفيعة؛ سرُّ الحضارات وديمومتها وازدهار الأمم واستدامتها. ومهما تطاولت الأبنية والعمارات؛ وضجت المصانع؛ وملَّت الطرق والمسارات من دبيب النشاط التجاري، وارتفاع مؤشرات الأسهم والسندات، وغاب إطار القيم والمبادئ والأخلاق؛ فمصير هذه الحضارة، حتمًا، إلى زوال، ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي، حين قال:

         وإنما الأمم الأخلاق؛ ما بقيت     ***      فإن همو ذهبت أخلاقهم؛ ذهبوا!