من القواعد الأساسية في أعمال القلوب وأعمال الجوارح أنه “لا عمل إلا بنية”، ومما يضاعف اللهُ به الأجرَ على الأعمال استحضارُ المسلم نيته قبل العمل، ومراقبة نيته أثناء العمل، وبعد العمل رجاء الله تعالى أن يتقبله، وبقدر ما تتعدد النوايا للعمل الواحد يكون أجره وثوابه عند الله. لهذا كان من الضروري رفع مقاصد الاعتكاف أمام عين المسلم حتى يكون على بصيرة من أمره، ويقين من عمله، وحب في الله، ورجاء في ثوابه، فيحصل من الأجر والثواب ما لا يحصله دون علمه بهذه المقاصد ووقوفه عليها، وبالتأمل في طبيعة الاعتكاف وأعماله تبين أن أهم الاعتكاف ومقاصده وغاياته ما يلي:

أولا: مغفرة الذنوب:

فمغفرة الذنوب مقصد كبير من مقاصد العبادات بصفة عامة، وقد قال النبي -- عن الصلاة: “الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر”(1).

وقال الله تعالى عن الزكاة: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها”. يقول الإمام الطبري في تفسيرها: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد : يا محمد خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها صدقة تطهرهم من دنس ذنوبهم”.

وعن الحج ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي يقول: “من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه”(2).

أما عن الصوم فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي قال: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه…”(3).

فغفران الذنوب ما تقدم منها وما تأخر هدف يرصده المسلم ويستحضره في عبادته لله تعالى، وبخاصة في رمضان الذي وردت فيه مغفرة الذنوب فيمن قام رمضان إيمانا واحتسابا، ومن صامه إيمانا واحتسابا، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا كما مر، ولا يكون الاعتكاف إلا في المسجد.

ثانيا: الفوز بثواب ليلة القدر

فالمسلم يتحرى ليلة القدر امتثالا لسنة النبي -- واتباعا لهديه، ومن أجل قيمتها وثوابها، ومن قدْرِها الرفيع عند الله أنه جعلها محلا زمانيا لنزول أفضل كتبه، وهو القرآن الكريم: “إنا أنزلناه في ليلة القدر”، أما ثوابها فمعروف مشهور: “ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر”. سورة القدر. فقيام هذه الليلة وإحياؤها أفضل من أن ينقطع المسلم عبادة لله ثلاثة وثمانين عاما وأربعة أشهر، وهو ما لا يستطيع الإنسان فعله في أمة توسطت أعمارها بين الستين والسبعين.

ثالثا: الخلوة بالله والأنس به

فما أعظم اللحظات التي يقضيها المسلم حين ينقطع عن الدنيا ويقبل على الله تعالى بكليته، إنه يتحصل لديه من المشاعر النبيلة والأحاسيس البهيجة ما لا تلحقه الإشارة، ولا تدركه العبارة.

ولن يستعذب المسلم هذه المشاعر ويعيشها إلا بهمة تصون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني، وتحمله على الرغبة في الباقي، وتصفيه من كدر التواني، قال ابن القيم رحمه الله: “الفاني: الدنيا وما عليها أي يزهد القلب فيها وفي أهلها، وسمى الرغبة فيها وحشة؛ لأنها وأهلها توحش قلوب الراغبين فيها وقلوب الزاهدين فيها، أما الراغبون فيها فأرواحهم وقلوبهم في وحشة من أجسامهم إذ فاتها ما خلقت له فهي في وحشة لفواته، وأما الزاهدون فيها فإنهم يرونها موحشة لهم؛ لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم ولا شيء أوحش عند القلب مما يحول بينه وبين مطلوبه ومحبوبه”(4).

ومن أجل أن يكون التفرغ لله وحده دون شيء سواه منع الشرع أن يخرج المسلم من معتكفه إلا لضرورة أو حاجة، لأنها فترة تجرد لله ومن ثم امتنعت فيها المباشرة -مباشرة النساء- تحقيقًا لهذا التجرد الكامل، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء، ويخلص فيه القلب من كل شاغل كما قال سيد قطب رحمه الله.

رابعا: إحياء القلب واجتماعه على الله

ففي الانعزال عن الدنيا -انعزالا مؤقتا- والبعد عن الشواغل حياةٌ للقلب وأنس بالله، ومع الذكر والدعاء والقيام والقرآن يرق القلب وتشف النفس ويصفو الذهن، فيعيش الإنسان أسمى لحظات الأنس والرضا، ولم لا، وقد تخلص من تَشَتُّتِ قلبه وتفرق ذاته هنا وهناك، وفاز بالاجتماع على الله والإقبال عليه، ومن هنا قال ابن القيم في عبارة شهيرة: “ومن له أدنى حياة في قلبه ونور فإنه يستغيث قلبه من وحشة هذا التفرق كما تستغيث الحامل عند ولادتها، ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا”(5).

فالتفرق يوقع وحشة الحجاب، وألمه أشد من ألم العذاب قال الله تعالى: “كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم”. فاجتمع عليهم عذاب الحجاب وعذاب الجحيم كما قال ابن القيم رحمة الله عليه.

خامسا: تهذيب النفس وتقريب الدمعة

إذ الانقطاع التام للعبادة يجعل النفس مقبلة بالكلية على مطلوبها الأعلى، منصرفة عن كل ما سواه، وهذا من شأنه أن يرقق القلب ويهذب النفس، ويزيل الران شيئا فشيئا الذي تراكم على القلب عبر أيام السنة، ومن هنا تصبح الدمعة قريبة، والنفس شفافة رفافة تكاد تنير.

وهنا معنى مهم في تشريع العبادات في الإسلام أو مقاصده، وهي أن العبادات لا تبرح النفس لحظة من اللحظات، من صلوات خمس في اليوم والليلة، وحج وعمرة، وزكاة وصدقات، ونوافل لهذا كله، ثم يأتي الصيام لينظف النفس والقلب، ثم تأتي العشر الأواخر لتبلغ النفس أسمى ما يمكن أن تبلغه من شفافية ورقة وحضور؛ ليكون شهر رمضان انطلاقة كبرى لبقية العام.

وهذا كله يصب في تحقيق معاني التقوى في النفس الذي هو المقصد الأكبر من الصيام، بل من العبادات كلها؛ حيث يقول الله تعالى: “يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون“. البقرة: 21.

هذه بعض المقاصد للاعتكاف وليست على سبيل الحصر، بل غيرها كثير مثل: الانقطاع التام إلى العبادة الصرفة من صلاة ودعاء وذكر وقراءة قرآن، وحفظ الصيام من كل ما يؤثر عليه من حظوظ النفس والشهوات، والتقلل من المباح من الأمور الدنيوية، والزهد في كثير منها مع القدرة على التعامل معها، كل هذا وغيره من مقاصد ينبغي أن يبتغيها المسلم في اعتكافه، ويضعها نصب عينيه حتى يحقق المقصود من الاعتكاف، ومن الله العون والقبول.

* وصفي عاشور أبو زيد، دكتوراه في مقاصد الشريعة الإسلامية


(1) رواه مسلم عن أبي هريرة كتاب الطهارة. باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.

(2) صحيح البخاري: كتاب الحج. باب: فضل الحج المبرور.

(3) صحيح مسلم: كتاب الصوم. باب: من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية.

(4) مدارج السالكين: 3/4. بتحقيق محمد حامد الفقي. طبعة دار الكتاب العربي. بيروت. ط ثانية. 1973.

(5) مدارج السالكين: 3/164.