من أحدث الكتب الصادرة حول صيام رمضان كتاب “من الطارق أنا رمضان” للدكتور خالد أبو شادي، الذي يدعونا فيه إلى اغتنام شهر رمضان وتحويله إلى “قوة تغييرية ومعونة ربانية وثورة إيمانية تجتاح كل بيت وتعمر كل حيّ” (1)، حيث يحدثنا من خلال فصوله الثلاثة عن الهدايا التي يقدمها لنا شهر رمضان كل عام، ويوضّح لنا العبادات التي ينبغي أن نستقبل بها شهر الصيام، ويُحذّرنا من الأقفال التي تمنعنا من ممارسة العبادة في هذا الشهر العظيم.
يحتلُّ الصيام مكانة كبيرة في قلوب المسلمين، فهو الركن الخامس من أركان الإسلام الخمسة، وبالعودة إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة نكتشف أن الهدف الأساسي من الصيام ليس امتناع الإنسان عن المباحات فقط في شهر رمضان أو في غيره من الأشهر والأيام، بل الهدف الأسمى هو العمل على إخراج النفس الأمّارة بالسوء من ميدان المعاصي والذنوب والكسل وترويضها على عبادة الله تعالى والارتقاء بها إلى منزلة التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وقد دفعت المكانة السّامية التي يحتلّها الصوم الكثير من العلماء والكتّاب المسلمين إلى التأليف عن الصيام لتبصير الناس بمفهومه وأحكامه ومقاصده وفلسفته وأبعاده، ومن ذلك: كتاب (مقاصد الصيام) لسلطان العلماء العز بن عبد السلام، وكتاب (إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام) لأحمد بن حجر الهيثمي، وكتاب (حقيقة الصيام) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب (أحكام الصيام وفلسفته) لمصطفى السباعي، وكتاب (فقه الصيام) ليوسف القرضاوي.. إلخ.
وسعياً إلى كشف النقاب عن بعض الجوانب الشرعية والتاريخية المتعلقة بشهر رمضان المبارك، سنحاول في هذه المقالة أن نعرض أهم الأفكار الواردة في كتاب “من الطارق أنا رمضان”، فهذا الكتاب -في نظرنا- خفيف ولطيف ومفيد إذ يعتمد صاحبه على مجموعة من مصادر التراث المهمة، ولهذا فإن كل صائم يحتاج إلى قراءته، كي يشعل في قلبه جذوة الصيام والقيام والتنافس في فعل الخير والبر والإحسان.
هدايا رمضان
في الفصل الأول (رمضان كريم)، من كتاب “من الطارق أنا رمضان” يحدثنا المؤلف عن فضل شهر رمضان المبارك، ويقدم لنا مجموعة من الأدلة القرآنية والحديثية والتاريخية التي تؤكد فضل رمضان ومكانته، فمن الأدلة القرآنية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ومن الأدلة الحديثية حديث: “عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: (مرني بعمل، قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له، قلت يا رسول الله: مرني بعمل، قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له).
ولا شك أن تكرار النبي ﷺ للجواب في الحديث السابق يؤكد قيمة الصيام وفضله، ويكشف عن ما فيه من الخير والبركة، ومن أهم الخيرات والبركات والهدايا التي نحصل عليها بمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك كل عام:
أولاً، الثواب المنهمر من أول ليلة: فقد جاء في الحديث: “إذا كانت أول ليلة من ليالي شهر رمضان صُفدت الشياطين ومردة الجن، وغُلّقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
ثانياً، البشارة الخماسية:روى البخاري أن النبي ﷺ قال: “قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه.
ثالثاً، جائزة كل ليلة:فقد جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: “إن لله عتقاء في كل يوم وليلة.. لكل عبد منهم دعوة مستجابة”. يا إلهي؛ هل هناك هدية أعظم من العتق من النيران {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}؟ لا شك أن الفوز بهذه الهدية الفريدة يحتاج ثورة إيمانية حقيقية.
رابعاً، موسم إنزال الكتب:مدح الله شهر رمضان واختاره من بين الشهور لإنزال الكتب،قال ﷺ: “أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان”.
خامساً، ليلة القدر (ليلة العمر):تحدث القرآن الكريم عن فضل ليلة وهناك سورة قرآنية اسمها (سورة القدر)، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، وقالالنبي ﷺ متحدثاً عن رمضان وفضل ليلة القدر خاصة: “وفيه ليلة هي خير من ألف شهر من حُرِمَ خيرها فقد حرم.
وفي هذا السياق ذهب خالد أبو شادي في كتابه “من الطارق أنا رمضان” إلى أن “في الصلوات الخمس كسر لرتابة اليوم، وفي الجمعة كسر لرتابة الأسبوع، وفي شهر رمضان كسر لرتابة العام، وفي ليلة القدر كسر لرتابة ليالي الشهر، وفي كل محطة من هذه المحطات يجدّد الإنسان إيمانه ويعيش حياة جديدة”(2).
ضيافة رمضان
بعد أن عرّفنا على بعض الهدايا القيّمة التي يقدمها لنا شهر رمضان المبارك، انتقل بنا المؤلف إلى الفصل الثاني (كرم الضيافة)، ليحدثنا عن كيفية الضيافة التي علينا أن نقدمها لرمضان كضيف قادم علينا وسيذهب بعد أيام معدودات، وقد يعود وبعضنا قد رحل إلى الدار الآخرة، ومن أهم الأمور التي ينبغي أن نستقبل بها رمضان ما يلي:
أولاً، القرآن الكريم: فرمضان شهر القرآن وفيه أنزل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، ولهذا ينبغي علينا أن ننتهز فرصة شهر رمضان من أجل العودة إلى القرآن الكريم قراءةً وحفظاً وتدبراً،فقد كان هذا هو دأب الأنبياء والصالحين والعُبّاد والزهّاد، حيث كان مالك إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن الكريم، وكان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع أصحابه(3).
ثانياً، قيام الليل: قيام الليل مطلوب في رمضان وفي غيره من الأشهر، ولذلك كان النبي صلى الله ﷺ لا يترك قيام الليل، وكانت قرة عينه في الصلاة، وقد وصف ثابت بن البناني الصلاة بأنها “خدمة الله في الأرض”، فقال: الصلاة خدمة الله في الأرض لو علم الله شيئاً أفضل من الصلاة لما قال: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}.
ثالثاً، الصدقة: الصدقة أمر عظيم وتزداد عظمتها في شهر رمضان، لذلككان ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان، ومن أسباب جوده في رمضان: شرف الزمان ومضاعفة الأجر، وأن الجزاء من جنس العمل، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه، وللصدقة صور عديدة منها: إطعام الطعام، وإفطار الصائم، وبذل المال (4).
رابعاً، الاعتكاف: الاعتكاف هو زيارة الله في بيته والانقطاع إليه فيه وحبس النفس على الطاعة والذكر، وكان النبي ﷺ يعتكف كل رمضان عشرة أيام وفي العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً، وقد عرّف ابن القيم الاعتكاف وأوضح الحكمة منه، فقال: “وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه”(5).
خامسا، الدعاء: “الدعاء مخ العبادة” وله منزلة كبيرة في الإسلام، ومن المهم جداً الإشارة هنا إلى أن الله تبارك وتعالى جاء بذكر الدعاء بعد آيات الصيام، فقال:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، وهذا أمر ملفت للأنظار ويكشف عن العلاقة الوطيدة بين الصوم والدعاء.
وقد أكد المؤلف أن الدعاء له عدة مفاتيح، منها: حسن الظن بالله، ورفع لواء التوبة، وإدمان أكل الحلال، وإظهار الفقر لله والاعتراف بالذنب، وتقديم دعاء الرخاء (6)، فالدعاء هو الذي نجّا يونس عليه السلام من بطن الحوت: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، أما فرعون فقد أدركه الغرق لأنه كان ناسياً لذكر الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
الأقفال الخمسة
في الفصل الثالث، من كتاب “من الطارق أنا رمضان” يحدثنا خالد أبو شادي عن ما أسماه (الأقفال الخمسة) التي تحجب الإنسان عن عمل الخير والبر والإحسان في شهر رمضان المبارك، وقد استشهد في هذا السياق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال السلف الصالح، والأقفال الخمسة هي:
القفل الأول، عدم الاستعداد لرمضان: لا شك أن عدم الاستعداد النفسي للعبادات يؤدي إلى القعود والحرمان من الخروج في سبيل الله وطلب مرضاته: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}، والاستعداد لرمضان يكون بصيام شعبان، والتقليل من الطعام، والتهيؤ للعبادات، وطلب التوفيق من الله تعالى لصيام هذا الشهر وقيامه إيماناً واحتساباً.
القفل الثاني، مرض حواء (الحيض): الحيض شيء كتبه الله على بنات آدم ويعد من موانع الصوم مثل السفر والمرض، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، وقال ﷺ: “إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً”.
القفل الثالث، السوق: الأسواق مكان مكروه لأنها محل الخداع والكذب والربا والأيمان الكاذبة وإخلاف الوعد، ولذا سماها سلمان الفارسي معركة الشيطان فقال: “لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان”. ومع ذلك، هناك رجال لا تُلهيهم التجارة عن الذكر والصلاة والزكاة والصدق والوفاء، يضعون أمام أعينهم دائماً قول الله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}.
القفل الرابع، العبادة المفضولة: يعني المؤلف بالعبادة المفضولة العبادة غير المفروضة التي تُخلُّ بالعبادة المفروضة، فالمطلوب القيام بالفرائض أولاً ثم النوافل ثانياً، فقد جاء في الحديث القدسي: “وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه”، وقال بشر بن الحارث الحافي: “إذا أخلّت النوافل بالفرائض فاتركوا النوافل”. ومن الأمثلة التي قدمها المؤلف على العبادة المفضولة: قيام الليل والنوم عن صلاة الفجر، والخشوع في التراويح وإهمال ذلك في صلاة العشاء مثلاً، واعتكاف العشر الأواخر على حساب رعاية الأهل، وأكل الحرام مع طول قيام الليل.
القفل الخامس، القاتل الخفي: يعني المؤلف بذلك (التدخين)، لأن العلاقة بين التدخين والحالات الصحية الخطيرة علاقة وطيدة جداً، فإذا كان الإنسان يدخّن 20 سيجارة في اليوم الواحد فإنه معرّض للموت بالسكتة القلبية خمسة أضعاف أولئك الذين لا يدخنون، وتشير بعض الدراسات إلى أن التدخين مسؤول عن (12 %) من الوفيات في العالم.