تحتاج المجتمعات العربية اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الابتعاد عن تقديس الأشخاص الذي يعتبر مصنعا لإنتاج وتوزيع الجهل والتخلف وتعطيل مسيرة الحياة الطبيعية، ورغم اتفاق الجميع على قاعدة “كل بن آدم خطاء” فإن أي أمة من الأمم لم يبتليها الله بمرض تقديس الأشخاص كما ابتلى أمة العرب، فما إن يبزغ نجم شخص من الأمة في مجال أو تخصص، علمي كان أو فكري، حتى تبادر مجموعة من الجهلة بطبيعة الإنسان إلى وضع هالة من القدسية حوله تجعل نقد ما يقول أو يفعل من موبقات الإثم التي قد تدفع بمعجبيه إلى خوض حرب ضروس -إن لم تكن باليد والسلاح، فبالقلم واللسان- ضد أي شخص آخر يحاول نقد هذا العالم أو المفكر وتصحيح بعض أخطاء ما يقول أو يكتب، ولعلاج هذه المشكلة لا بد من الاعتراف بوجود فرق واضح بين النقد البناء الذي يبرز الإيجابيات ويشيد بها، ويعالج السلبيات ويصححها بأسلوب يبتعد عن التجريح وتناول ذات الشخص الذي نريد نقد بعض أفكاره.

وعلى ضوء ما سبق لا بد للأجيال الحالية أن تفهم -بشكل عقلاني بعيدا عن الانفعال- أن تقديس الأشخاص مرض نفسي يحتاج علاجا واقعيا وفهما صحيحا للأشياء بعيدا عن التعصب، فبعض العقليات السائدة والرائجة هذه الأيام تحاول تصوير نقد العلماء ورجال الفكر والسياسة على أنه خيانة عظمى في حق هذا العالم أو ذلك المفكر، وأصحاب هذا التعصب الأعمى لا يدركون أن النقد الهادف والبناء أداة تساعد على تصحيح أخطاء المنتقَد إن كانت له أخطاء، وهذا لا يغض من مقامه أصلا، وقد آن الأوان أن يفهم الجميع، خصوصا الشباب أن لا أحد فوق النقد مهما كان، فبميزان النقد يمكن تقويم الخلل والخطأ.

يقول الكاتب إبراهيم البليهي إن تعظيم فرد من أفراد الأمة وحصر الحقيقة فيما يقول أو يكتب من أسباب تخلف الأمة وواحد من الطرق المؤدية إلى السقوط، لأن أصالة النقص البشري أرسخ من احتكار المعرفة المطلقة التي تنتج عن تقديس الأشخاص مهما كانت مستوياتهم العلمية والفكرية، “إذا بالغت أية أمة في تعظيم فرد واحد من سالف علمائها أو حصرت فهم الحقيقة ببضعة أفراد ممن كان لهم نصيب من التميز أو الشهرة من أبنائها وتوقفت بمعارفها عند انجازات أولئك الأفذاذ فإنها بذلك تعلن أنها تجهل أصالة النقص البشري الملازم حتى للعظماء المبدعين كما تجهل أن لكل جيل نصيبه من العظمة والإبداع وأن المعرفة الإنسانية عملية تراكمية تنمو باستمرار”.

ويذهب الكاتب أبعد من ذلك مشخصا أسباب متلازمة تقديس الأشخاص وكيف أنها تتسبب في تأليه الفرد ووضعه في مكانة تخرجه عن الطبيعة البشرية وتضفي عليه هالة من التأليه، مؤكدا أن نتيجة هذه المتلازمة هي الجهل والجور والتخلف ” إن بين الجهل والجور والتخلف تلازماً عضوياً فهو ثالوث مترابط يخنق عقل المجتمع ويلغي فردية الإنسان ويوقف حركة التاريخ ويعطل مسيرة الحضارة فمع استمرار جهل المجتمع بما له وما عليه يحصل الجور ومع الجور تسوء الأخلاق وتتدهور الضمائر ويتفاقم الجهل، وباجتماع الجهل والجور وسوء الأخلاق وفساد الضمائر تسود الأنانية الشرسة ويتوطد التخلف، وباستحكام هذه الشبكة من الآفات والمعوقات وتبادل التغذية بين أطرافها تتوالد عناصر الانحطاط وتترسّخ أركان الإفلاس الحضاري فتنسد الآفاق وتنغلق العقول ويشتد التعصب ويسود الاجترار ويختفي الإبداع ويتوجّس الناس من أي طارئ في الأفكار والأذواق والممارسات ويحتمون بما ألفوه ويبالغون في تعظيم الأشخاص الثقات وينقلب التقدير إلى تقديس وبذلك يستحكم الانغلاق ويتوقف النمو وتبدأ مرحلة الجفاف والتيبّس، والمبالغة في تعظيم المتميزين من الأشخاص هي أغزر منابع الجهل والظلم والتخلف.

ولو انطلق المقدسون للأشخاص اليوم من القاعدة التي انطلق منها جهابذة الأمة قديما وفهموا معاني الكلمات الخالدة للإمام ومالك والشافعي رحمهما الله لابتعدوا عن تقديس الأشخاص، فالإمام مالك قال: ” ما وافق مذهبي من الكتاب والسنة فخذوا به وما لا فاضربوا به عرض الحائط، وقال: كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر ، وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم”، كما أن الإمام الشافعي أصل لقاعدة تمنع تقديس الأشخاص وذلك بقول : ” رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.