كيف يُمكن لحضارات وامبراطوريات عظيمة أن تختفي من الوجود وأن لا يبقى منها سوى أحجار مطمورة تحت الأرض بُنيت على أنقاضها حضارات أخرى؟ أحجار لو نطقت بما فيها، لحكت لنا حكايات شعوب خَلت وحضاراتٍ سقطت وجُمعت بقاياها في المتاحف والقصور.
لفهم عوامل السقوط ، لا بدّ من التأمل في عوامل الإزدهار.. لأنه إذا جفّت منابع التطوّر انهارت الأُمم. وفي هذا، يُمكن القول أن عوامل إزدهار أي حضارة وبقاءها على قيد الحياة يتطلب وجود مجموعة من العوامل هي: العامل الديمغرافي (السكان) ،الفائض في الغذاء، حكومة مركزية قوية، الوحدة الدينية والثقافة ، تقسيم العمل ، وشكل السياسة الضريبية المفروضة ( السياسة الإقتصادية).
يرى المراقبون أن هذه العوامل ترتبط فيما بينها إلى درجة الإندماج، حيث أن أي خلل يُصيب إحداها قد يُسبب خللاً في العوامل الأخرى، وأي هبوط في هذا العامل سيؤدي بالتالي إلى هبوط العوامل الاُخرى، تماماً كما النار التي لا يُمكن إشعالها إلا بوجود العناصر التي تؤدي إلى الإشتعال وهي: الأوكسجين والوقود .. فإذا نقص عنصر من هذين، تتحوّل الشعلة إلى ظلام وتُصبح رماداً في الهواء.
وهذا هو حال الحضارات التي إذا فقدت عنصر من عناصر التطور، تُصبح رُكاماً، ويغدو قادتها مُجرّد تماثيل لا يهابها سوى المؤرخين ونُخبة من عُلماء الآثار أو طفل صغير دخل المتحف مُرتعشاً من أمجاد ذاك الملك وعظمة تلك البلاد التي قرأ عنها في كتاب التاريخ المُصوّر.
لا شكّ أن عنصر الشعب والظروف السكانية أو ما يعرف في العلاقات الدولية بالعامل الديمغرافي يشكّل عاملاً رئيساً من عوامل القوّة والنفوذ والتوسع والعظمة السياسية على مرّ العصور. وخلال الحروب، استطاعت الأمبراطوريات الضخمة أن تُجنّد أعداداً ضخمة من السكّان لتدفعهم إلى ساحات القتال ولاستعمار مناطق جديدة كنقطة قوة من الناحية الديمغرافية.
فما هو إذن سرّ سقوط هذا العامل في تاريخ الحضارات ؟
يرى المراقبون أن الاحتمالات البيئية والصحية ساهمت بشكل فاعل في زعزعة مُلك العديد من الحضارات كالأمراض الوبائية والإضطرابات الجيولوجية، والتي ساهمت في اندثار السُكّان، وفي إسقاط عامل من عوامل الإزدهار. ومن هذه الحضارات : حضارة المايا الذي امتد حُكمها (من 2000 ق.م إلى 250 ميلادياً).. والتي تسببّت الأمراض الوبائية والجفاف الحاد في انهيارها بالإضافة إلى حروب الإبادة الجماعية ، وما نجم عنها من إصابات وأوبئة قضت على القوّة الديمغرافية لا سيّما بعد الغزو الإسباني لهم في القرن 16.
في هذا المجال أيضاً، يعتقد علماء الآثار أن الجفاف الذي ضرب بلاد ما بين النهرين لمدّة 300 عام كان عاملاً رئيساً من عوامل سقوط الإمبراطورية الأكدية (السومرية) التي تمركزت في مدينة أكد (على الصفة الغربية لنهر الفرات)، وكان هذا السبب أيضاً عاملاً قوياً في سقوط حضارة كمبوديا المعروفة سابقا باسم كمبوتشيا أو ما عُرف بالحضارة الخميرية.
انهيارات أخرى قد يبدو من الصعب تصنيفها تحت عامل دون آخر، لكنها أظهرت غلبة لإحدى العوامل، وهذا ما يُمكن استنتاجه من سقوط الحضارة الرومانية التي انهارت بسبب الاستنزاف الخارجي نتيجة سياسة التوسّع، بالتزامن مع التقهقر الداخلي، وهذا ما يُمكن تفسيره بعدم وجود حكومة مركزية قوّية وبسياسة ضرائبية جائرة، كان قوامها: الغزو والعبودية وسحق الموارد البشرية لتسريع عجلة النمو الإقتصادي ولتعزيز البنية التحتية وتمددّ النفوذ على حساب النواة المركزية.
وقد بدأ العد العكسي بانهيار الامبراطورية الرومانية في عام 235 م الذي اتسم بالاضطرابات السياسية وشكلت الهجمات الخارجية من القبائل المستعمرة.، الضربة القاضية للرومان.
وماذا عن حضارة “أناسازي” التي تأسست في أميركا الشمالية في سنة 700 قبل الميلاد وعاش في كنفها الهنود الحمر؟ لقد شكّلت الـ”أناسازي” نموذجاً آخراً لانهيار الحضارات، حيث يقول المؤرخون أن من أسباب سقوط هذه الحضارة “الانقسام الديني”، حيث انقسم شعوب ” أناسازي” بين من اتبّع”الانجيل الجديد” وهاجر جنوباً وبين من بقي على ديانته.. ومنهم من توفيّ بسبب البرد القارس الذي ضرب تلك المنطقة عام 900 م. ولم تقيهم بيوتهم الغريبة من الانتصار على الطبيعة.
سبا، وادي السند، و شبه القارة الهندية ، الحضارة الفرعونية، عيلام، الشعوب الفينيقية، الحضارة الفارسية الإغريقية، الأتروسكان، الأولمية، عشرات من الحضارات القديمة التي ما زال يختلف عُلماء الانتروبولوجيا في السبب الأول لسقوطها..لكن تعددت التفسيرات والسقوط المُدّوي واحد..
من يتفكّر في ذلك، ويسأل اليوم: هل نحنُ في وقت باتت فيه “الإنسانية” هي الحضارة الوحيدة الصامدة بوجه الأوبئة والتحديات الإيكولوجية – البيئية – ، والحروب والإنقسامات الدينية، وبوجه السياسات الإقتصادية الجائرة؟
هل ستتمكّن شعوب هذه الحضارة اليوم من موظفين أُممين، وعُلماء في جميع المجالات، وأفراد ما يزالوا يؤمنون بالإنسانية، من إنقاذ هذه الحضارة من السقوط؟
لقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:” أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ” –سورة السجدة الآية (26)- .. فهل من مهتدٍ ؟