ما رأينا التاريخ يسجل بين دفتي حوادثه خيبة للمجاهد، إنما رأيناه يسجل خيبة المستجدي…الحرية لا تُعطى ولا تُوهب، بل سجل التاريخ أنها تُؤخذ وتُنتزع، نادى بذلك شيخنا ابن باديس: فقال: “قلِّب صفحات التاريخ العالمي، وانظر في ذلك السجل الأمين هل تجد أمة غُلبت على أمرها، ونُكبت بالاحتلال، ورزئت في الاستقلال، ثم نالت حريتها منحة من الغاصب، وتنازلاً من المستبد، ومنة من المستعبد؟! اللهم كلا… فما عهدنا الحرية تُعطى إنما عهدنا الحرية تُؤخذ.. وما عهدنا الاستقلال يُمنح ويُوهب، إنما علمنا الاستقلال ينال بالجهاد والاستماتة والتضحية”.
ولد ابن باديس بمدينة قسطنطينة عاصمة الشرق الجزائري في ربيع الثاني من سنة 1307هـ الموافق ليلة الجمعة 4 ديسمبر عام 1889م … والده هو السيد محمد المصطفى بن مكي بن باديس كان حافظًا للقرآن الكريم، ويشتغل بالتجارة والفلاحة، يعد من أعيان مدينة قسطنطينة وسراة أهلها، عُرف بدفاعه عن حقوق المسلمين في الجزائر وتوفى سنة 1951…أما أمه فهي السيدة زهيرة بنت علي بن جلول من أسرة اشتُهرت بالعلم والتدين.
نشأة أصيلة
نشأ الإمام ابن باديس في أحضان تلك الأسرة العريقة في العلم والجاه، وكان والده بارًا به، فحرص على أن يربيه تربية إسلامية خاصة؛ فلم يُدخله المدارس الفرنسية كبقية أبناء العائلات المشهورة، بل أرسل به إلى الشيخ المقرئ محمد بن المدَّاسي فحفظ عليه القرآن وتجويده وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة سنة! فنشأ منذ صباه في رحاب القرآن فشب على حبه والتخلُّق بأخلاقه. وفي جامع الزيتونة أخذ ابن باديس العلم من المبرزين من الأساتذة والشيوخ الذين كان لهم بالغ الأثر في تكوينه الفكري واتجاهه الإصلاحي، نذكر منهم:
– الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: الذي لازمه فأخذ عنه الأدب العربي وديوان الحماسة لأبي تمام.
– الشيخ محمد النخلي القيرواني: هو العالم الجليل أستاذ التفسير في جامع الزيتونة. يقول عنه ابن باديس: “ذاكرت يومًا الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق من أساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية، فقال لي: “اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة وهذه الأقوال المختلفة وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط ويبقى الصحيح وتستريح .. فو الله لقد فتح الله بهذه الكلمات القليلة لذهني آفاقًا واسعة لا عهد له بها .
– الشيخ البشير صفر: الذي يعتبر من أبرز علماء تونس ومن القلائل الذين جمعوا بين التعليم العربي الإسلامي والتعليم الغربي مع إتقانه لعدة لغات حية، يقول عنه ابن باديس “إن كراريس البشير هي التي كان لها الفضل في اطلاعي على تاريخ أمتي وقومي، والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جنديًا من جنود الجزائر”.
كما تأثر ابن باديس بالأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا في جوانب من منهجه؛ خاصة استقلاليته في التفكير، وأسلوبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبُعده عن الوظائف.
ومن الأحداث التي أثرت في توجهه ومستقبل عمله التقاؤه بالشيخ أحمد الهندي بالمدينة المنورة، وكان ابن باديس قد عزم على الاستقرار بها، فنصحه الشيخ أحمد الهندي بالعودة إلى الجزائر وخدمة الإسلام والعربية فيها بقدر الجهد. فحقق الله أمنية ذلك الشيخ بعودة ابن باديس إلى وطنه وتفانيه في خدمة الدين واللغة.
نبني على الماء ما لم نعد الأبناء
لم تنقطع نداءات ابن باديس لجمع الطاقات وتوحيد الصفوف وتكاتف الجهود معتمدًا في ذلك على كتاب الله وسنة رسوله (ﷺ) اللذين هما الأساس لكل نهضة تتطلع لها الأمة وفي هذا يقول: “إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآزر وتنهض لجلب المصلحة، ولدفع المضرة متساندة في العمل فكرة وعزيمة” فانسابت أشعة الفجر الجديد من تلك النداءات المباركة فأيقظت الأصوات بعد سكوتها، وحركت الهمم بعد سكونها.
ويصف لنا الأستاذ مالك بن نبي (رحمه الله) تلك اليقظة: “لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات ابن باديس فكانت ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك، ويالها من يقظة جميلة مباركة”.
ومفهوم الإصلاح عند ابن باديس هو: “إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله بإزالة ما طرأ عليه من فساد”.
إن ابن باديس عند وضعه لمناهج التعليم لم يكن مذهبه مثاليًا مبنيًا على تصورات نظرية، بل كان مذهبه واقعيًا أملته متطلبات العصر وأولويات المجتمع ومعتقداته.
ويرى ابن باديس ضرورة إعداد المناهج المناسبة لتنشئة أجيال المستقبل وتربيتها التربية الصالحة موضحًا ذلك بقوله: “إن أبناءنا هم رجال المستقبل وإهمالهم قضاء على الأمة إذ يسوسها أمثالهم، ويحكم في مصائرها أشباههم.. ونحن ينبغي منا أن نربي أبناءنا كما علمنا الإسلام، فإن قصرنا فلا نلومنَّ إلا أنفسنا، ولنكن واثقين أننا نبني على الماء ما لم نعد الأبناء بعدة الخلق الفاضل، والأدب الديني الصحيح”.
وكان ابن باديس رحمه الله يحرص على الكيف أكثر من حرصه على الكم، يرى التركيز على الفهم وإعمال الذهن وتشغيل قوى المخيلة أكثر من شحن الذاكرة.
أولى ابن باديس تعليم المرأة المسلمة اهتمامًا كبيرًا، مدركًا الخطر المحدق بالأمة إذا تُركت المرأة بغير تعليم، لقد نادى الشيخ ابن باديس بضرورة تعليم البنات وتوفير المكان المناسب لهن دون الاختلاط بالذكور، معطيًا بذلك روحًا جديدًا للتعليم في الجزائر لم تكن معهودة فيها من قبل: “ذلك لأن المجتمع لا ينهض إلا بالجنسين الرجل والمرأة مثل الطائر لا يطير إلا بجناحيه”.
ويركز ابن باديس على إعداد المرأة المسلمة للقيام بوظيفة تربية الأجيال: فيشير إلى ذلك بقوله: “إذا أردنا أن نكوِّن رجالاً، فعلينا أن نكوِّن أمهات دينيات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعليم البنات تعليمًا دينيًا، وتربيتهن تربية إسلامية، وإذا تركناهن على ما هن عليه من الجهل بالدين فمحال أن نرجو منهن أن يكوِّنَّ لنا عظماء الرجال.. وشر من تركهن جاهلات بالدين، إلقاؤهن حيث يربين تربية تنفرهن من الدين أو تحقره في أعينهن؛ فيصبحن ممسوخات لا يلدن إلا مثلهن”.
وقد أسس ابن باديس عدة مدارس ومعاهد لنشر فكره، كما أسس أيضًا: “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” سنة 1931 كان ابن باديس رئيسًا لها، وعن أهدافها يقول ابن باديس: “إن الجمعية يجب ألا تكون إلا جمعية هداية وإرشاد لترقية الشعب من وهدة الجهل والسقوط الأخلاقي إلى أوج العلم ومكارم الأخلاق في نطاق دينها الذهبي وبهداية نبيها الأمي”.
وقد استعان ابن باديس ورفاقه بأدوات العصر لنشر دعوتهم فإلى جانب الدروس والمحاضرات والخطب اتخذوا من الصحافة منبرًا آخر لبيان المفاهيم الإسلامية الصحيحة؛ فقد شارك ابن باديس في تأسيس جريدة “النجاح” ثم اقتحم ابن باديس ميدان الصحافة -بنفس العزم والجد الذي عرف به- بجريدة “المنتقد” مفتتحًا عددها الأول بقوله “بسم الله ثم باسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظم المسئولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون” ثم خلفت “المنتقد” “الشهاب” ثم أُسست جريدة “الإصلاح”.
الزاهد الصارم
– التواضع والتقشف: اشتهر رحمه الله بالزهد والانصراف عن متاع الدنيا ورغم أن عائلته كانت من سراة قومه إلا أنه في شخصه كان متقشفًا مخشوشنًا متواضعًا تواضع العلماء العارفين.
يروى أنه خرج من مقصورته بجامع “سيدي قمرش” بقسطنطينة ذات يوم فطلب من أحد أصدقائه أن يبحث له عمن يشتري له نصف لتر من اللبن وأعطاه آنية، فرآها ذلك الصديق فرصة لإكرام الشيخ، فذهب بنفسه إلى الشَّوَّاء واشترى له صحنًا من اللحم المختار، وعاد إلى الشيخ وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ولما قدمها إليه استشاط غضبًا، وقال له في لهجة شديدة صارمة: “ألا تعلم أنني ابن مصطفى بن باديس، وأن أنواعًا مختلفة من الطعام اللذيذ تُعد كل يوم في بيته ولو أردت التمتع بالطعام لفعلت، ولكن ضميري لا يسمح لي بذلك، وطلبتي يستفون الخبز بالزيت وقد يأكله بعضهم بالماء”.
– الحلم والتسامح: يروى أن إحدى الجماعات الصوفية المنحرفة التي ضاقت ذرعًا بمواقف ابن باديس أوعزت-بتنسيق مع سلطات الاحتلال- إلى نفر من أتباعها باغتيال الشيخ عبد الحميد ظنًا منها أن في اغتياله قضاءً على دعوته، غير أن الغادر الذي همَّ بهذه الجريمة لم يُفلح في تنفيذها، ووقع في قبضة أعوان الشيخ، وكانوا قادرين على الفتك به إلا أن أخلاق الإمام العالية جعلته يعفو، وينهى أصحابه عن الفتك به متمثلاً قول النبي ﷺ: “رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
– الشجاعة في الحق: لئن كان الشيخ ابن باديس في كثير من مواقفه لينًا من غير ضعف فهو في الحق صارم.. وحين تخور العزائم فهو شجاع شجاعة من لا يخاف في الله لومة لائم، ولا غطرسة ظالم متجبر.
تجسد ذلك في مواقف عدة منها: موقفه مع وزير الحربية الفرنسي “دلادييه” أثناء ذهاب وفد المؤتمر الإسلامي إلى باريس في 18 يوليو 1936؛ حيث هدد الوزير الفرنسي الوفد الجزائري وذكرهم بقوة فرنسا وبمدافعها بعيدة المدى قائلاً: “إن لدى فرنسا مدافع طويلة”، فرد عليه ابن باديس: “إن لدينا مدافع أطول فتساءل “دلادييه” عن أمر هذه المدافع؟ فأجابه ابن باديس: “إنها مدافع الله”.
– الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق: “سُئل – رحمه الله – مرة عن مسألة فقهية فأفتى فيها بغير المشهور، ولما تبين له الصواب رجع إليه ونبه على ذلك الخطأ وأورد الصواب في مجلة “الشهاب”، وقد كان يكفيه أن يوضح تلك المسألة للسائل فحسب، لكنه علل صنيعه قائلاً: “أردت أن تكون لكم درسًا في الرجوع إلى الحق”..
– حسن استغلاله للوقت: كان مدركًا قيمة الوقت وضرورة استغلاله والاستفادة من لحظاته، وتظهر نظرته واضحة في تفسيره لقوله تعالى: ” أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْر ِإِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا” [الإسراء آية 78]، فيقول: في ربط الصلاة بالأوقات تعليم لنا لنربط أمورنا بالأوقات ونجعل لكل عمل وقته، وبذلك ينضبط للإنسان أمر حياته وتطرد أعماله ويسهل عليه القيام بالكثير منها، أما إذا ترك أعماله مهملة غير مرتبطة بوقت فإنه لابد أن يضطرب عليه أمره ويشوش باله، ولا يأتي إلا بالعمل القليل ويحرم لذة العمل وإذا حرم لذة العمل أصابه الكسل والضجر فقل سعيه، وما كان يأتي به من عمل على قلته وتشوشه بعيدًا عن أي إتقان”.
ومن أقواله أيضًا “عمر الإنسان أنفس كنز يملكه ولحظاته محسوبة عليه وكل لحظة تمر معمورة بعمل مفيد فقد أخذ حظه منها وربحها، وكل لحظة تمر فارغة فقد غبن حظه منها وخسرها، فالرشيد هو من أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين فعمَّر وقته بالأعمال، والسفيه من أساء التصرف فيه فأخلى وقته من العمل”. بهذه النظرة الصائبة للوقت نجح ابن باديس في استغلاله أحسن استغلال فكان يلقى من الدروس في اليوم الواحد ما يعجز عنه غيره.
يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر ويظل طيلة نهاره يعلم طلبته الدين وعلوم العربية ولا يقطع دروسه إلا لصلاة الظهر ولتناول الغداء ثم يستمر إلى ما بعد العشاء!!
وكان رحمه الله مع أخذه بكل ما يستطيع من الأسباب في تأدية رسالته يلتجئ إلى الله بثقة لا توهب إلا لأولى العزم من الرجال.. ففي إحدى ساعات الشدة والعسرة قال لأحد طلبته: يا بني! إن جميع الأبواب يمكن أن تغلق أمامنا ولكن بابًا واحدًا لن يغلق أبدًا، هو باب السماء.
وفي مساء يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359هـ الموافق 16 أبريل 1940م أسلم ابن باديس روحه الطاهرة لبارئها متأثرًا بمرضه بعد أن أوفى بعهده وقضى حياته في سبيل الإسلام ولغة الإسلام، وقد دُفن رحمه الله في مقبرة آل باديس بقسطنطينة بعد حياة أوفى فيها بعهده: إني أعاهدكم على أن أقضي بياضي على العربية والإسلام كما قضيت سوادي عليهما وإنها لواجبات.. وإنني سأقضي حياتي على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن وهذا عهدي لكم” من آثار ابن باديس العلمية