لا أحد – بالطبع – يستطيع أن يتحدث عن العلامة محمود محمد شاكر في جوانبه الإنسانية وحياته الخاصة وما لا يعرفه عنه أحد مثل ابنه “فهر” أستاذ الأدب العربي.
والعلاقة بين العلامة الراحل وبين ابنه فهر لم تكن فقط علاقة أب له مكانته بابنه وإنما امتدت لتصبح علاقة شيخ بتلميذه شارك خلالها فهر أباه في بعض تحقيقاته ونفذ إلى كثير من أسرار نفسه وسأله واستفسر منه، لكنه لم يشاكسه حيث ظل في نفسه وفي نفس كل من عرفوه مقام “الإمام الذي لا ينازع في علمه وأدبه وفضائله”! وفي هذا الحوار يتحدث د. فهر عن الجانب الخفي في حياة شاكر وعن أسرار في حياته تنشر لأول مرة.
اختار لك والدك العلامة الكبير اسما يبدو غريبا على -أسماع الناس هذه الأيام.. هل تحدثنا عن اسم “فهر”؟
– فهر تعني في اللغة “الحجر الصلب في حجم قبضة الكف” وهو اسم جد الرسول ﷺ، وقد اختار والدي الاسم لهذا السبب وكان الأقرب إلى قلبه أن يناديه من يعرفونه بلقب “أبي فهر” فانتماء والدي للعرب كان واضحا حادا وهو كان شديد الاعتزاز به حيث كان يذكر دائما أن “فهر” هو جد العرب لمن كان يستفسر عن اسمي أمامه.
أكثر ما عرف عن محمود شاكر إنسانيا: الحدة. فهل كان -حادا لدرجة أن يترك انطباعا عاما عند كل من قابلوه بهذا؟
كانت الحدة شيئا أساسيا في طباعه رحمه الله لكنها كانت تظهر في مواقف معينة حينما يقرأ أو يسمع ما يمس أيا مما يؤمن به وما وهب حياته له كأن يقرأ تطاولات على الإسلام أو العربية أو يقرأ خوضا في حياة وسير الصحابة ورجال التاريخ الإسلامي، خاصة أن كثيرا مما كتب – ولا يزال – يفتقر للعلم أو للجهد في المعرفة. وقد كان “يغيظه” جدا الاستهلال الصحفي في عرض موضوعات يرى أنها قوام حياة هذه الأمة، ومع هذه الحدة فقد كان على الجانب الآخر وفي حياته الخاصة شديد الرقة والعطف، جياش المشاعر هادر الأحاسيس لدرجة أننا كثيرا ما رأيناه يبكي.
هل كانت له عادات يومية ثابتة أم أنه كان مزاجيا -يتصرف كما يتفق له؟
كانت له عادات يومية ثابتة صارمة للغاية، فهو يصحو مبكرا جدا وأول ما يفعله بعد الصلاة وبعد إفطار خفيف أن يقرأ كل الجرائد بلا استثناء وكان يقسم يومه بين القراءة والعمل سواء كان يكتب أو يعمل في تحقيق كتاب، وكان شرها للغاية في القراءة فلا يمسك كتابا -مهما كان حجمه- إلا وينتهي منه في نفس اليوم، وكان إذا بدأ العمل لا يسمع أحدا مطلقا.
كان الأستاذ شاكر أقرب لأن يكون “معتزلا”.. هل كانت له صداقات أدبية أوسع من المعروف عن علاقته بالأديب يحيى -حقي والشاعر محمود حسن إسماعيل؟
كانت له صداقات كثيرة بالطبع في الحياة الأدبية والفكرية لكنها امتدت خارج مصر حيث كان يحضر ندوته التي كان يقيمها كل يوم جمعة كثير من الأدباء وطلاب العلم من العالم العربي والإسلامي، ولم يكن يفضل أن يجعلها ندوة بالمعنى المتعارف عليه إنما كان الحديث يسير بشكل طبيعي وعن أي موضوع يعن للحاضرين وإن كانوا جميعا يفضلون الاستماع لآرائه في أي قضية تعرض لهم. ورغم أن والدي رحمه الله كان شديد العنف في هجومه الذي لم يتوقف حتى وفاته على الاستشراق والمستشرقين فإنه كانت تربطه علاقات ببعضهم مثل كارلونللينو الذي كان يحضر كثيرا لبيت جدي في الغورية حيث مجالس العلم والسياسة ومجتمع مشاهير الحركة الوطنية والفكرية. وفي هذا المنزل نشأت صداقة بين والدي وبينه.
أما بالنسبة لنجيب محفوظ فكانت تربطه بوالدي علاقة جيدة لكنها ليست في مستوى علاقته بيحيى حقي الذي ربطته بوالدي صداقة عمر لدرجة أنه كان لا بد من اتصال يومي بينهما، ورغم أن يحيى حقي رحمه الله كان دائم الثناء على والدي في كتبه وفي جلساته الخاصة فإن والدي كان يشاكسه كثيرا وكان يقول له إن كتابته ليست عربية بل هي هجين؛ لأن أصله تركي!.
وبقية صداقاته؟
-كما قلت كانت كثيرة جدا، من سوريا مثلا كان الناقد والأديب شاكر الفحام من أكثر المترددين على ندوة الجمعة، ومن السياسيين كانت علاقة والدي بعلال الفاسي علاقة وثيقة لدرجة أنه بمجرد اعتقال والدي وقّع عدد من السياسيين المغاربة وثيقة بالدم للمطالبة بالإفراج عنه وكان هو على رأس الموقعين.
أما محمود حسن إسماعيل فكانت علاقته به هي أوثق علاقة ربطته بشاعر في عصره، وكان يقول: “تركت الشعر لمحمود حسن إسماعيل”، وكانت بداية علاقتهما في مكتب أحمد حسن الزيات صاحب “الرسالة” وكان إسماعيل يقرأ لوالدي مقالاته فيها كما كان والدي يقرأ أيضا أشعار إسماعيل ويعجب بها. وتصادف في هذا اليوم أن كان والدي يعطي قصيدة للزيات لنشرها في الرسالة وقرأها الزيات بصوته بإعجاب شديد، لكنه استفسر عن ترك القصيدة بلا عنوان، وساعتها أمسك محمود حسن إسماعيل القصيدة وأخرج قلما وكتب عليها بخط يده: “رماد” وبالفعل نشرت القصيدة في الرسالة بهذا العنوان، وبعد هذا توطدت لقاءاتهما وعلاقتهما حتى أصبحت صداقة من نوع فريد.
وعلاقته بك أنت وبابنته الوحيدة “زلفى”؟
-ولدت أنا وبعد شهرين بالضبط من ولادتي دخل أبي المعتقل وحينما خرج كان عمري أربع سنوات، ومنذ الطفولة كان أبي متدفق المشاعر جدا تجاهنا، وكان إذا غضب يفعل ما يعبر به عن غضبه وبحدة لا حدود لها، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمضايقات نتعرض لها. وأذكر أنه خنق بواب العمارة وخلصه الناس من بين يديه؛ لأنه منعنا من اللعب في مدخل العمارة بدون أسباب. وكان حريصا جدا على أن نتم حفظ القرآن الكريم كاملا في الطفولة وقد كان هذا بعون الله.
كان العلامة محمود شاكر أكثر علماء وأدباء عصره دراية بالأدب واللغة وعلوم العربية كلها.. من كان يفضل هو شخصيا من الأدباء؟
في النثر كان يجل الجاحظ ويرى أنه قمة الأدب العربي ولم يكن يحب كتب ابن المقفع ويراه فارسيا حتى وإن تربى وعاش بين العرب. وفي الشعر كان يحب الشعر الجاهلي الذي أحاط به إحاطة كاملة غير مسبوقة، لكن المتنبي كان بالطبع حبه الأول والأخير، كان يحفظ ديوانه كله، وكان يعرف كل ما اختلف فيه القدماء حول شعر المتنبي ويدافع عنه دفاعا حارا ينقل لنفس محدثه فورا الإعجاب بهذا الشاعر العربي الأعظم، وكان دائم الترنم بأشعاره وروايتها في كل المناسبات بإلقاء لم أسمع له نظيرا.
ومن الأدباء المحدثين الذين ارتبط بهم بعلاقة خاصة جدا من المودة والإكبار الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي، بل إن أبي رحمه الله كان يعتبره أستاذه الأول وكان يعتبره أكبر وأخلص من دافع عن الأدب العربي عن علم وموهبة وحرارة، وقد دخل في معركة ضخمة مع سيد قطب رحمه الله حينما هاجم الرافعي لصالح العقاد، وقد رد أبي ودافع عن الرافعي بحرارة وحسم.
لم يأخذ الشيخ شاكر حظه من الشهرة وذيوع الصيت.. هل كان ذلك بسبب عزلته أم بسبب مصادمة أفكاره لقيم عصره كلها؟
– لم تكن قضية الشهرة تعنيه كثيرا، ودائما ما كان يردد: “كتبت ما يرضيني ولست رجل شهرة” وكان يقول: إن وظيفته الأولى والأخيرة أن يقرأ. وبمناسبة عزلته هو لم يكن معتزلا للمجتمع بالمعنى السلبي، فقد كان متابعا دقيقا للحياة الأدبية والفكرية في مصر والعالم العربي لكنه كان لا يحب أن يتحدث مع الصحافة ولا التليفزيون وكان رأيه فيهما سيئا.
كان رحمه الله شديد التعصب للعربية حادا في الدفاع عنها.. هل كان يقرأ شعر العامية الذي نما وانتشر بعد الخمسينيات حتى طغى في بعض المراحل على شعر الفصحى من حيث الانتشار؟
– كان يسميه زجلا وكان يقرؤه بالطبع وكان معجبا بفؤاد حداد ويقول إن لغته حلوة وتنم عن ثقافة عميقة وقراءات واسعة في الشعر العربي، كما كان يحب أشعار صلاح جاهين، وربما انتبه له بفضل حديث يحيى حقي رحمه الله الدائم عنه كلما جلس مع أبي.
والغناء.. ماذا كان رأيه فيه؟
كان يطرب للغناء طربا شديدا، لكن الغناء كله تلخص عنده في صوت أم كلثوم التي كان معجبا جدا بحلاوة وقوة صوتها وعمق ارتباطها بالشعر العربي ودقة مخارجها للحروف، وقد كان ينوي كتابة مقال مطول عنها، لكنه توفي قبل إتمامه.
كيف كان رأيه حينما اشتدت أزمة الدكتور نصر أبو زيد، وما رأيه في كتبه؟
– د. نصر كان معنا في قسم اللغة العربية وكان دائم الاتصال بوالدي، وأذكر أنه في إحدى المحاضرات كان د. نصر يشرح لنا في “دلائل الإعجاز” وقمت لأستوضح منه أحد نصوص الكتاب التي بدت لي غامضة، لكن د. نصر قال: إن النص واضح جدا. وحينما عرضت الموضوع على والدي قرأ النص وقال إنه غير واضح، وابتدأ تحقيق “دلائل الإعجاز” من هذا اليوم.
وحين بدأت أزمة نصر أبو زيد في الجامعة حدثت أشياء غريبة ولم يعترض والدي على رأي أبو زيد في الإمام الشافعي؛ لكنه اعترض على الأخطاء الفادحة في الكتاب من الناحية العلمية، وحينما نبه د. نصر لأخطاء في التواريخ والوقائع لا تليق بطالب مبتدئ رد عليه بأنه وقع في “لخبطة” ولن يعيد طباعة الكتاب، لكن -وهذا هو الغريب- لم يمر أسبوع إلا وكان قد طبعه طبعة جديدة بنفس الأخطاء، وحينما حدث جدل حول الكتاب اتصل والدي بالدكتور أحمد مرسي الذي كان رئيسا لقسم اللغة العربية بآداب القاهرة وطلب منه ألا يصل الموضوع للصحافة حفاظا على ما تبقى من سمعة الجامعة وقسم اللغة العربية، لكن د. نصر ود. أحمد مرسي وصلا بالموضوع للضجة التي أثيرت ويعرفها الجميع.
غير الأدب العربي.. كيف كانت علاقة محمود شاكر بالآداب الأخرى؟
-كان يجيد الإنجليزية بشكل مطلق وأعتقد أنه كان قادرا على أن يحاضر في الأدب الإنجليزي أكثر من كل المتخصصين، وقد ترجم بالفعل قصائد لأوسكار وايلد.
هل صحيح أنه لم يكن يصلي في جامع الحسين أبدا؟
-هذا صحيح، فلم يصل مرة واحدة في مسجد الحسين رضي الله عنه؛ لأن قبر الحسين أمام القبلة وهذا مما يبطل الصلاة، لكنه كان يصلي في الأزهر ويحب أن يتجول وحيدا في القاهرة الإسلامية.
هل تشعر أن محمود شاكر ظلم في حياتنا الثقافية أم أخذ ما يستحق؟
-بلا شك ظلم، وأقصد بهذا أنه شخصيا لم تكن تعنيه الشهرة والأضواء لكن كتبه وأفكاره لا تصل للناس بشكل يمثل ربع أهميتها وخطورتها.
محمود صالح5>